في ذكرى رحيل عاطف الطيب : ماذا قال صناع السينما الواقعية عنه؟
في ذكرى رحيل عاطف الطيب : ماذا قال صناع السينما الواقعية عنه؟
“أنا في رأي أن التطور يكون نابع من جوهر القضايا التي تتناولها الأفلام ومدى إلتحامها مع هموم وطموحات وأحلام الناس ومدى صدق العناصر الفيلمية في التعبير عن ده..ده اللي يعنيني”..بهذا التعليق البسيط، استطاع مخرج الواقعية المصرية عاطف الطيب التعبير عن رؤيته للمبدع الحقيقي.
وها هي الرؤية الإبداعية التي أوضحها مخرج البسطاء، من وجهة نظره، ضمن حديثه في تسجيل قديم لـ “سهرة مع أيام السينما المصرية الجديدة”، وأثبتها فعليًا من خلال أعماله الفنية المختلفة، وترك أثرها وجدانيًا في نفوس المصريين منذ بدايات مشواره الفني وحتى ما بعد رحيله، الذي يحل ذكراه في 23 يونيو الجاري لعام 2019.
أقرأ أيضًا: أهم الأفلام الهندية في 2018 وZero في الصدارة
مدرسة “الطيب” الإخراجية نشأت في بيئة فنية متميزة؛ منذ دراسته في معهد السينما، ومن ثمً عمله كمساعد مخرج، لمدة سبع سنوات، مع أبرز المخرجين الغربيين والمصريين؛ منهم: يوسف شاهين في فيلم “إسكندرية ليه” 1979 ، وشادي عبد السلام في فيلم “جيوش الشمس” 1973 ، حتى نضجت موهبته وتمكن من إخراج 21 فيلمًا روائيًا، خلال 14 عامًا فقط، وأصبح مصطلح “أفلام عاطف الطيب” بمثابة كناية عن مدرسته الخاصة، التي ما زال يتأثر بها جيل كبير من الفنانين والمخرجين.
شعبية عاطف الطيب الجماهيرية والفنية، أثمرت مِن بذرة “الإنسانية” بداخله؛ فكل مَن عرفه وتعامل معه، لا يخلو حديثه عنه إلا وأشاد بطيبته وإنسانيته، التي كانت تدفعه للاهتمام بالمجتمع المصري وشعبه وهمومه وقضاياه، وتأثرت أفلامه بها بالتبعية؛ حتى استطاعت أفلامه التعبير عن مشاكل جيل بأكمله، الذي ينتمي إليه “الطيب” نفسه، وشهد أحداث النكسة وحرب أكتوبر وغيرها من الأحداث المصيرية في التاريخ المصري.
أنور علي وسر صنعة الأفيش في القرن العشرين
الاهتمام بالتفاصيل وبساطة التعبير عنها كانت أبرز سمات “مدرسة عاطف الطيب”، على الرغم من صعوبة القضايا التي كانت تتناولها أفلامه ومدى حساسيتها، إلا أنه كان ينجح في كل مرة في توضيح رسالته للجمهور والتعبير عنهم، في رحلة بصرية خاصة وممتعة.
والحقيقة أنه كان يبذل مجهودًا خاصًا في كل المراحل الإنتاجية الخاصة بأفلامه، والتي كان الملصق الدعائي “الأفيش السينمائي”، يلعب دورًا حيويًا بها، وبإلقاء نظرة على أفيشات أفلامه، ستجد طابعًا خاصًا يميزه، وهو الاهتمام بالتفاصيل والرموز، ورسم أبعاد الشخصيات ومحاولة التقرب من سماتهم، من خلال الأفيش الدعائي.
وكان من أبرز رسامي أفيشات السينما المصرية الناجحين، الذين ذاع صيتهم في ذلك الوقت، وتعامل معهم عاطف الطيب، الرسام الراحل أنور علي، والذي أوضحت ابنته إيمان أنور علي، في تصريحات خاصة لـ “أراجيك”، أنه كان هناك علاقة صداقة قوية بينهم، حيث إنه كان من أقرب المخرجين له؛ وتقاسما معًا نفس الاهتمامات والشغف والمحبة أيضًا، وتعاونا معًا في عدة أفلام، منهم: “قلب الليل” 1989، و”الحب فوق هضبة الهرم” 1986، و”ملف في الاَداب” 1986، و”التخشيبة” 1984، و”الهروب” 1991.
رسم الأفيشات في عالم “أنور علي” كان يتطلب حضور أجواء كواليس التصوير؛ ليقترب بدرجة كبيرة من شخوص الفيلم، قبل الإنعزال التام؛ من أجل الانتهاء من رسمه، ليقوم برسم أكثر من “ماكيت” بالقلم الرصاص ثم تلوينها؛ كل واحد بفكرة مختلفة للفيلم، ويناقشها مع “الطيب” ومنتج الفيلم لاختيار الماكيت المناسب.
ثم يرسم “الواحد فوليو”؛ عبارة عن فرخ ورق متر فى متر ثم يُكبر الفكرة على 24 فرخًا على الحائط؛ حيث إن تكبير الرسم بـ “بروجكتور” بدائي، ثم التلوين و كتابة الأسماء، ثم الذهاب للمطبعة و طباعة العدد المطلوب للعرض على واجهات السينما و الشوارع.
“كان عاطف الطيب إنسانًا هادئًا، و كان يقول والدي عنه “اسم على مسمى”. كان فنان ذو إحساس عالى وعندما كانا يجلسان معًا لعرض أفكار الفيلم ووضع خطة عمل الأفيش، يحدث بينهما توافق و سهولة فى التعامل؛ حيث يشرح عاطف الطيب قصة الفيلم و يتفاعل معه “أنور” سريعًا، وكان يعرف ما يدور فى حدسه وأفكاره و يعرف طلبه وينفذه، ولا أذكر أبدًا أنهم اختلفا فى يوم من الأيام، فحب العمل والإحساس العالي كان يربطهما”، بحسب رواية “إيمان”.
أقرأ أيضًا: لمحبي المسلسلات التركية قائمة بأشهرها على الإطلاق
بشير الديك وسيناريو سينما الواقعية
مِن التدقيق في ملامح الممثلين على الأفيشات، لنسج مشاهد خاصة تحمل في طياتها روح العمل الدرامي وسمات أبطاله؛ من الورق وإلى الشاشة مباشرة، من خلال اهتمامه بعمله الإخراجي، بإبراز تفاصيلهم بلغة الكادرات والصورة.
تعامل “الطيب” مع أبرز كُتاب السيناريو في أعماله السينمائية، ذات المكانة المرموقة في تاريخ السينما المصرية، منهم: وحيد حامد، وأسامة أنور عكاشة، ومصطفى محرم، وبشير الديك، وذكر الأخير عنه في إحدى اللقاءات الإعلامية، أن علاقتهما كانت تغلب عليها “جزء عاطفي”، بحسب ما اتسمت بالإنسانية والكثير من المحبة والود.
وعن طبيعة تعاونهما معًا في أعمالهما، أشار بشير الديك لـ الإعلامية لميس الحديدي، في برنامج “هُنا العاصمة”، المذاع عبر فضائية ”cbc”، أنه كان لا يتدخل في كتابة سيناريو الأفلام التي جمعتهما معًا، واصفًا إياه بـ “توأم روحه”.
تابع مشيرًا إلى أنهما كانا يفكران في نفس الشيء في نفس التوقيت، موضحًا أن هذا “التماهي الروحي والثقافي”، هو ما جعلهما يتعاونان معًا في 7 أفلام مختلفة، منهم: “سواق الأتوبيس” أول أفلامه الناجحة عام 1982، بعد فيلم “الغيرة القاتلة” الذي لم يحقق النجاح المرجو وقتذاك، و اَخر أفلامه “جبر الخواطر”،الذي عُرض عام 1998.
أفلام عاطف الطيب تميزت بالاهتمام بالبُعد الإجتماعي وبشعبيتها ومواضعها الثقيلة وأفكارها العميقة، التي كانت تنفجر بالشخصيات الحية، والتي كان من الممكن أن تصطدم بشبيهتها على أرض الواقع، بعد الانتهاء من رؤيتها على الشاشة الكبيرة، حتى لُقب “الطيب” بـ رائد سينما الواقعية المصرية، التي أستطاعت أن تؤرخ نسبة كبيرة من شرائح المجتمع المصري، وعاداته وظروفه وطبائعه ومشاكله.
فنجد له أفلامًا تتناول قضايا البسطاء والمهمشين، والفقر المعنوي والمادي، وقضايا الحرب ضد الاستعمار، والحريات بكافة صورها، والعلاقة بين المواطن والسلطة، كما تطرق إلى تجسيد بعض قصص الشخصيات الحقيقية؛ مثل قصة رسام الكاريكاتير الفلسطيني في فيلم “ناجي العلي” عام 1992، والذي رافق عرضه عدة انتقادات واسعة، أعاقت سير عملية عرضه بدور العرض السينمائي بصورة طبيعية.
كما أن الأفلام التي صورها مع نجوم السينما المصرية، تعد بصمة سينمائية متميزة في حياته وفي حياة الفنانين أيضًا، منهم مَن تلمس أولى أبواب النجومية على يديه، منهم: أحمد زكي، ونور الشريف، ومحمود عبد العزيز، وشريهان، ولبلبة، حيث تقربوا للشعب أكثر من خلال بساطتهم في التعبير، واحترافية تجسيد شخصيات الشارع المصري.
فهناك بعض المقاطع السينمائية التي رافقت الجمهور رغم اختلاف الأزمنة وظهور تأثير السوشيال ميديا بدرجة كبيرة، ويتم تداولها من قِبل رواد مواقع التواصل الإجتماعي حتى الاَن؛ ملقبين إياها بأفضل المقاطع في تاريخ السينما المصرية، منهم مشهد المرافعة الشهير لـ النجم الراحل أحمد زكي، من فيلم “ضد الحكومة” الذي عُرض لأول مرة عام 1992، وكتب سيناريو الفيلم بشير الديك أيضًا.
سعيد شيمي والتعبير بلغة الصورة
إلى جانب النجاح الجماهيري الذي حققته أفلام عاطف الطيب حققت إشادات كثيرة لدى النقاد أيضًا؛ حيث إن أفلامه شاركت في عدة مهرجانات دولية عربية وغربية، منهم فيلم “الحب فوق هضبة الهرم”، الذي شارك في أسبوع المخرجين في مهرجان “كان” في الثمانينيات، كما كان فيلم “ليلة ساخنة” مِن أكثر أفلامه التي حازت على جوائز فنية، وعُرض لأول مرة عام 1995.
برزت الواقعية الحديثة في سينما عاطف الطيب نتيجة للإهتمام بالديكور وزوايا الكاميرا وحجم اللقطات المستخدمة لتصوير انفعالات الشخصيات، وعاونه في التعبير السينمائي بشكل جيد، المصور السينمائي الشهير سعيد شيمي، الذي جمعته أعمال سينمائية هامة مع “الطيب” إلى جانب ذكريات إنسانية كثيرة معه.
بدأت علاقة “شيمي” بـ “عاطف الطيب” خلال فترة الدراسة في معهد السينما، وامتدت بعد ذلك إلى أن عملا معًا فى 8 أفلام متميزة ومختلفة، وبحسب ما روى “شيمي” في تصريحات صحفية سابقة، أوضح أنه تفاجأ بمهارات “الطيب” الإخراجية بعد تعاونهما الأول في فيلم “الغيرة القاتلة”، مشيرًا إلى أنه لم يتوقع أحد له بذلك أثناء فترة الدراسة.
ونتيجة لعلاقتهما الخاصة، قرر “شيمي” توثيق أسرار أعمالهما الفنية وكواليس التصوير، في كتاب “أفلامي مع عاطف الطيب”، الذي نُشر لأول مرة بواسطة الهيئة العامة لقصور الثقافة،
أقرأ أيضًا: قائمة بأفضل المسلسلات السورية على الإطلاق
ويعاد نشره مع دار “الهالة للنشر والتوزيع” في طبعة جديدة، تصدر في المكتبات في يونيو الجاري لعام 2019، تزامنًا مع إحياء ذكرى رحيل “الطيب”.
زوجة عاطف الطيب والإنسانية التي لا تٌفنى
خلال 47 عامًا، شهدت خطوات “الطيب” الدنياوية، على طيبته وإنسانيته وجرأته سواء في فنه عبر أفلامه الروائية، أو من خلال علاقته بمن حوله في حياته الحقيقية؛ حيث روت زوجته، السيدة “أشرف”، الكثير من المواقف التي برهنت على ذلك في حياته، منها توقفه مخصوص للحديث مع عساكر المرور وإلقاء السلام عليهم في الشارع.
أوضحت أنها حينما سألته عن سبب ذلك؛ أشار إلى أنه يقف في الشارع ساعات طويلة، دون أن يقف معاه أحدًا أو يشعره بأنه يؤدي دورًا مهمًا، متسائلاً: ” إيه اللى هخسره يعني لما أقف معاه؟ أحسسه بقيمته حتى دا هينعكس على أدائه في شغله”، بحسب رواية الكاتب بلال فضل في أحد حلقات برنامج “الموهوبون في الأرض”.
ظل ابن الطبقة الوسطى يعبر عن أبناء الطبقى الكادحة بفن يُرى ومصداقية تُحس، حتى رحل عن عالمنا على أنغام موسيقية غير مرئية ولا حقيقية، بل أنه سمعها وحده ووجه تساؤلاً عن ماهيتها وقتذاك، لأصدقائه المرافقين له أثناء تواجده في المستشفى، بحسب رواية تلميذه المخرج محمد ياسين، قبيل رحيله عن عالمنا إثر إجرائه لعملية تغيير في صمام القلب.
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات