اللامبالاة الكونية في روايات هوارد فيليبس لافكرافت
اللامبالاة الكونية في روايات هوارد فيليبس لافكرافت
إنّ مقالي هذا يختلف عن المقالات التي أكتبها في العادة، فأنا لست ناقداً أدبيّاً ولا أدّعي أنني أصبحت واحداً، بل إن ما سأكتبه هنا يعبّر أكثر ما يعبّر عن انطباعات شخصيّة تشكلت لديّ لدى تعرّفي على كاتبٍ لقصص الخيال العلميّ والرّعب، هو الكاتب هوارد فيليبس لافكرافت.
إنّ لافكرافت هو كاتبي المفضّل على الإطلاق، وهذا ما دعاني كي أكتب عنه هذا المقال، الّذي أتمنى عبره أن أوصل لكم سبب ولعي بكتاباته، ومنذ زمن بعيد جدّاً.
بداية الرّحلة
لا زلت أذكر المشهد وكأنّه أمامي، عندما كنت لا أزال طفلاً، حيث رأيت مشهداً من فيلمٍ قديمٍ يتحدّث عن كتابٍ رهيبٍ اسمه “نيكرونوميكون” وقد قيل في المشهد، أنّه لا يجب أن يقرأ أحد من الأحياء هذا الكتاب!
هنا صدمت لأول مرّةٍ بفكرةٍ رهيبةٍ، ألا وهي المعرفة المحرّمة! فعلى الرغم من معرفتي بأنّ الفيلم خيالي، إلا أن فكرة وجود أنواع من المعرفة لا يفترض بي كإنسان أو كشخص على قيد الحياة أن أعرف بها لم تزل من ذهني: فماذا لو كان هناك حقّاً مستويات من الوجود لا يمكن لنا كبشر أن نفهمها مهما حاولنا؟
كبرت ونسيت اسم الفيلم، ولكنّني لم أنس اسم الكتاب. وكهاوٍ للخيال العلمي ولقصص وأفلام الرعب، فقد كانت مسألة وقتٍ فقط قبل أن ألتقي بهذا الكتاب في مكان آخر. وبالفعل، عندما كنت في بداية العشرينات من عمري، بحثت عن قصص تخصّه، وهنا كانت المفاجأة الصّادمة والسّارّة في نفس الوقت: فقد اكتشفت أنّ هذا الكتاب هو من اختراع كاتب أمريكي يدعى هوارد فيليبس لافكرافت، قام بتقديمه في قصصه الخيالية التي كان يكتبها في عشرينيات القرن العشرين. وبدأت أقرأ بنهم لهذا الكاتب، وكم كانت رحلةً من المتعة والخيال إضافةً إلى التّفكير العميق، مستحقّة لكلّ لحظةٍ فيها!
فما الذي يميّز كتابات هذا الرجل؟
المميّز في كتابات لافكرافت
إنّ أجمل ما في كتابات هذا الرجل، هو اعتماده على مفهوم جوهري في كافة قصصه، ألا وهو مفهوم اللامبالاة الكونية. فعلى عكس القصص المألوفة والمحببة لمعظم الناس، والتي تبنى على أساس أننا كبشر لنا أهميتنا في الكون، بمعنى أن حياتنا لها قيمة، فنرى هذه القصص قائمةً على صراع بين الخير والشر ينتصر فيها الخير في النهاية في الغالبية الساحقة من المرات، نجد على المقلب الآخر أنّ قصص لافكرافت تنظر للبشر على أنهم أقل من غبار في هذا الكون اللامبالي، وبأن الكون يحتوي على قوى وأهوال يمكن لمجرّد معرفة قدر ضئيل عنها أن تؤدي بالإنسان إلى الجنون.
ففي كون لافكرافت، كان ظهور البشر مجرد حدث عبثي أحمق في كون لا يبالي بهم، وسيزولون كغيرهم من الأشياء دون أن يؤثر ذلك على الكون في شيء. فالكون من وجهة نظر لافكرافت هو كون عبثي لا هدف له ولا معنى، وكل المعاني التي نمنحه إياها ناتجة عن محدودية نظرتنا الضيقة للكون.
ومن وجهة نظره أيضاً، فإن صفات الخير والشر التي منحها البشر لآلهتهم عبر التاريخ منبعها نفس النظرة القاصرة، فالخير والشر مفهومان نسبيان وما هو خير بالنسبة لك قد يكون شرّاً لغيرك.
يعجبني في هذا السياق المثال التالي: مهما كنت تعتبر نفسك خيراً وتدافع عن حق الحياة لكل الكائنات، فبمجرد أخذك للدواء للشفاء من مرضٍ ما أو غسل يديك بالصابون لاتقاء شره، فأنت تقتل الآلاف من الكائنات المجهرية. وفعلك هذا سيكون بحدّ ذاته شرّاً بالنسبة لهذه الكائنات. بالتالي فافتراض خير كوني مطلق وشر مطلق هو أمر ساذج فعلاً.
لذلك فالكائنات الجبارة في الكون الخيالي الذي صنعه لوفكرافت والتي يقوم بعضها مقام الآلهة بل وتعبد من قبل البعض كآلهة، نجدها متجاوزة لمفاهيم الخير والشر ولا تندرج تحت هذا التصنيف. بل تتصرف طبقاً لغاياتها الخاصة لا غير، والتي هي عصية على الفهم من قبل البشر بعقولهم المحدودة، كما أن غاياتنا عصية على إدراك البكتيريا أو حتى القرود!
خاتمة
في الختام، لا بد من التنويه أن لافكرافت كان واعياً تماماً لخطر الخرافات على الناس، وقد كان شديد الوضوح عندما كان يؤكد أكثر من مرة على أن القصص التي يكتبها هي خيالية بحتة وهي بغرض الاستمتاع والتأمل في طبيعة وجودنا لا أكثر.
إلا أن روعة واتسّاق ما كتبه قد قاد للأسف إلى اعتقاد راسخ لدى البعض بأن كتاباته تنقل حقائق سرية خفية، ضاربين عرض الحائط بكل ما كان يقوله الرجل ويحذّر منه. إلا أن الجانب الإيجابي الذي يمكن أن يؤخذ من ذلك هو رؤية الأثر العظيم الذي يتركه هذا الرجل على القارئ بأسلوبه الرائع!
وعلى الرغم من أن الأفكار التي طرحها ليست جديدة على الفلاسفة والعلماء (وأقصد بذلك اللامبالاة الكونية)، إلا أن وضعها في الإطار الأدبي الرائع الذي وضعها به لافكرافت يمنحها أبعادًا جديدةً من الجمالية الفائقة والأثر العميق في النفس.
لذلك، سأترك هنا رابطاً يحتوي على قائمةٍ بقصصٍ لهذا الرجل مرويّة صوتياً (وأتمنى ممن يريد التعرف على أعمال الرجل أن يقرأها أو يسمعها بلغتها الأم، أي الإنكليزية، كي تصله جزالة تعابيره وأسلوبه الفذ كما هو) والتي أتمنى من كل قلبي أن تنال إعجابكم، وتترك لديكم أثراً مشابهاً لما تركته لدي.
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات