جزر العبقرية: كتاب يكشف عن سمات العبقرية في التوحد
جزر العبقرية: كتاب يكشف عن سمات العبقرية في التوحد
ألهم باحثة لإنجاز أول رسالة دكتوراه عربية عنها
لعدة سنوات، تقدِّم مروة محمد عبد الباري الخدمات التأهيلية والاستشارية للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وأولياء أمورهم في المركز الذي تعمل به في القاهرة. ومن ضمن هؤلاء الأطفال، ثمة فئة من ذوي اضطراب طيف التوحد تحاول مروة من خلال الممارسات النفسية والعلاجية المتخصصة التخفيف من آلامهم والحد من اضطراباتهم.
يُعد اضطراب طيف التوحد من الحالات الشائعة عالميًا، إذ تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن طفلًا واحدًا من بين كل 160 طفلاً يصاب به في المتوسط، وأن معدل انتشاره يميل إلى الازدياد على المستوى العالمي وفقاً للدراسات الوبائية التي أجريت على مدى الخمسين سنة الأخيرة.
ومن السمات الواضحة عند ذوي هذه الحالة، أنهم يعانون من صعوبات شديدة في التواصل والتفاعل مع أفراد المجتمع، ومحدودية الاهتمامات، في حين يتراوح أداؤهم للمهارات المعرفية غير اللفظية بين القصور الشديد والتفرّد الاستثنائي.
جعل الأداء المتفرّد من بعض هذه الحالات مروة في حالة من الحيرة لتفسيره، خصوصًا حين يظهر بين الصغار الذين تقابلهم مواهب وقدرات استثنائية ومثيرة، الأمر الذي جعلها تقرر البحث والدراسة أكثر عن هذه الظاهرة.
تُسمى هذه الظاهرة علميًا “متلازمة الموهوب” أو “savant syndrome”، وهي متلازمة مرتبطة بوصف الأشخاص المصابين بالإعاقات العقلية واضطرابات النمو، ومنهم مرضى التوحد، الذين تظهر لديهم قدرات ومهارات استثنائية ومثيرة مقترنة بذاكرة هائلة في مجال واحد أو أكثر، وعلى مستويات متعددة من الأداء.
وعلى الرغم من وجود آلاف الحالات العربية ممن لديهم هذه المتلازمة اليوم، وتقديم وسائل الإعلام العربية بعضهم بين الحين والآخر، إلا أن المتلازمة لم تحظَ بالاهتمام والدراسة عربيًا، سواءً في الجامعات العربية أو في المؤسسات المتخصصة، كما أن المكتبة العربية تفتقر إلى الكتب والمراجع التي تتناولها.
أبرز الجهود العالمية
لا تزال هذه المتلازمة حتى اليوم لغزًا في علم الأعصاب الإدراكي، والدراسات والأبحاث فيها قليلة على المستوى العالمي. أحد أهم هذه المصادر العالمية هو كتاب الدكتور دارولد تريفيرت “جزر العبقرية” الصادر بنسخته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2012.
يُعد تريفيرت خبيرًا عالميًا في التوحد، ورائدًا في دراسة هذه المتلازمة التي بدأ دراستها عام 1962م، عندما لفت نظره في جناح تأهيل المعاقين عقليًا بالمستشفى الذي يعمل فيه أربعة أطفال ممن لديهم إعاقات عقلية شديدة، وظهرت لديهم مهارات فريدة؛ فقد كان أحدهم يستطيع إعادة تركيب أحجية لصورة من 500 قطعة مقلوبة على الطاولة من خلال النظر إلى الأشكال الهندسية فقط، والآخر كان يستطيع قذف كرة السلة بالطريقة والمسار نفسيهما في كل مرة .أما الثالث فقد كان يعرف “ما حدث في مثل هذا اليوم” في كل يوم من أيام السنة، والرابع كان يحفظ نظام الحافلات في المدينة.
وعمل تريفيرت أيضًا مستشارًا لفيلم (1988) Rain Man، الفيلم الحاصل على أربعة جوائز أوسكار، الذي جسدّ في قصته أعماقًا كبرى في مفهوم العبقرية في العقل البشري من خلال الدور الذي قام به داستين هوفمان، الشاب المعاق عقليًا الذي يتمتع بذاكرة فائقة وقدرة هائلة للتعامل مع الأرقام والمسائل الحسابية. ويذكر تريفيرت أن هذا الفيلم عرّف الجمهور لأول مرة عن هذه الحالات ودعا بطريقة غير مباشرة إلى رعايتها والاهتمام بها.
بداية الجهود العربية
حينما اطلعت مروة عبد الباري على الترجمة العربية لكتاب تريفيرت، مَثّل لها مرجعًا أساسًا لبدء البحث ودراسة حالات عربية، تبعتها بإنجاز رسالتها في الدكتوراه عن “متلازمة الموهوب”.
وفي شهر ديسمبر الماضي، منحت جامعة حلوان بالقاهرة ولأول مرة على مستوى الجامعات العربية درجة الدكتوراه للباحثة مروة عبد الباري عن دراستها الهادفة إلى الكشف عن هذه الفئة والتعرف على قدراتهم ومستوياتهم والحد من الأعراض الدالة على ضعف المهارات اللغوية لديهم، من خلال تطبيق برنامج فردي قائم على العلاج المعرفي، يخفض الأعراض الإكلينيكية المصاحبة، ويحسن المهارات اللغوية، ويدعم نقاط الضعف لديهم كالتواصل البصري والإدراك والانتباه والاستنتاج، ويقلل من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق والوسواس القهري.
وشملت هذه الدراسة تصميم وتطبيق مجموعة من برامج الاختبارات، مثل: اختبار تحديد قدرات ذوي متلازمة الموهوب، والمقياس اللغوي، وبرنامج معرفي لتحسين المهارات اللغوية، واختبار جيليام لتشخيص التوحد، واختبار الذكاء ستانفورد بينيه.
أهمية الترجمة العلمية
وعن أهمية ترجمة المحتوى العلمي، تؤكد الدكتورة مروة أن ترجمة “جزر العبقرية” شجعتها للبدء في دراسة هذه المتلازمة، وتقول إنه على الرغم من الغموض الذي يكتنف هذه الظاهرة، إلا أن ملاحظاتها اليومية أكدت السمات المحددة التي ذكرها الدكتور تريفيرت في كتابه، من حيث أن هناك خصائص مشتركة بين ذوي القدرات الاستثنائية واضطراب طيف التوحد. إذ تصيب هذه الحالة النادرة واحدًا من كل عشرة ممن يعانون باضطراب طيف التوحد، كما أن نصف ممن لديهم هذه المتلازمة هم من ذوي اضطراب طيف التوحد، والنصف الآخر من ذوي الإعاقات العقلية المختلفة، وتنحصر قدرات هذه الحالات في عددٍ من المهارات، تشمل: الحساب السريع، وأداء عدد من الفنون، والذاكرة القوية، والأداء الموسيقى، والمهارات المكانية البصرية، والمهارات الميكانيكية، وحساب التقويم التاريخي.
وأشارت مروة إلى أن ذوي هذه الحالات مع ما يملكون من مواهب وقدرات، فإنهم يعانون من مشكلات في إدارة حياتهم اليومية، والتفاعل الاجتماعي، واستخدام اللغة وتفسير المحادثات المختلفة، وقصور في المفردات، وفي حاجة دائمًا إلى التدخل العلاجي لتدريبهم وتعليمهم مهارات بديلة مساعدة، من خلال برنامج علاجي معرفي يطوّر الخصائص التعليمية والسلوكية والمعرفية. وقد أظهرت نتائج الدراسة التي أجرتها عن فعالية مثل هذه البرامج في الكشف عن قدراتهم، وتحسين المهارات اللغوية، وبالتالي خفض اضطراباتهم النفسية.
دراسة الحالات العربية
بلغ عدد الحالات العربية التي درستها الدكتورة مروة ثلاثون حالة، تنوعت مهاراتهم بين الحساب السريع، والمهارات الميكانيكية، والمهارات المكانية البصرية، والأداء الموسيقي، وحساب التقويم التاريخي. ومن بين هذه الحالات الشاب مروان وحيد، الطالب الحاصل على الترتيب الأول في الثانوية العامة على مستوى جمهورية مصر العربية، ذو القدرة الاستثنائية في الحساب السريع، وكذلك علي السعدني، البالغ من العمر اثنا عشر عامًا، ولديه قدرة مميّزة في حساب التقويم التاريخي.
وفي دراسة الدكتورة مروة، أظهر الفحص الدماغي الذي أجري على هذين الشابين أن المناطق المرتبطة بالذاكرة في دماغيهما نشطة جدًا بالرغم من أن اليافعَين يعانيان من اضطراب طيف التوحد، وهذا يؤكد نتائج الفحوصات السابقة الأخرى التي أشار إليها تريفيرت وعدد من المتخصصين.
وفيما يتعلق بإمكانيات مراكز التأهيل العربية للتعامل مع هذه الحالات، تقول مروة إن أغلب المراكز تتعامل مع مثل هذه الحالات بطريقة خاطئة، بسبب عدم قدرة منسوبيها على فهم هذه القدرات، الأمر الذي يعرض هذه المهارات للاختفاء، بسبب عدم تطويرها بشكل صحيح.
المزاوجة بين الثقافة والعلوم
تكمن أهمية مثل هذه الدراسات أنها تجري في الوقت الذي تطورت فيه الوسائل الطبية وأجهزة الفحص البصري للدماغ، مثل جهاز التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (MRI)، وجهاز الأشعة المقطعية بالانبعاث البوزيترني (PET)، وجهاز التصوير الطبي بأشعة جاما (SPECT)، وجهاز التصوير ممتد الانتشار أو تتبع الألياف (DTI) وغيرها. وكذلك مع بدأ العلماء محاولاتهم لفهم هذه الظاهرة الغريبة، وسعي العديد من المنظمات والجهات الأكاديمية والتأهيلية العالمية إلى الاهتمام بهذه الحالات، من أجل توفير المزيد من المعلومات والحقائق عنها، ولفت أنظار المتخصصين إلى ذوي القدرات الاستثنائية من ذوي اضطراب التوحد ليستثمروا قدراتهم الخارقة.
كل هذه الحقائق تشير إلى أهمية المزاوجة بين جهود الثقافة والترجمة من جهة والعلوم والتكنولوجيا من جهة أخرى، وتدعو إلى رفد المكتبة العربية بالمزيد من المحتوى العلمي العالمي، وتؤكد على مواءمة حركة الترجمة إلى العربية مع التسارع الجاري في الدراسات والأبحاث العالمية، لتكون داعمًا للباحثين والممارسين في المستويين النظري والتطبيقي في الجامعات والمؤسسات المتخصصة العربية.
جزر العبقرية: كتاب يكشف عن سمات العبقرية في التوحد بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات