أُسطورة “طالوس” الروبوت الأول في التاريخ
أُسطورة “طالوس” الروبوت الأول في التاريخ
على السواحل الجنوبيّة لجزيرة “كريت” -أكبر جُزر اليونان- يُكمِلُ العملاق البرونزيّ الأسطوري “طالوس” دورته الروتينية حول الجزيرة بحثاً عن أيّ معتدٍ أو زائرٍ غير مرغوبٍ به قد تُسوّل له نفسه الاقتراب منها، تلك المهمّة التي خلقه الإله “هيفيستوس Hephaestus” -بأمرٍ من زعيم الآلهة زيوس– من أجلها، وأمَره بالقيام بها ثلاثِ مرّات يوميّاً، إن وقعَ أيُّ معتدٍ وغريب في قبضةِ طالوس الروبوت، يُمسك به ويضُمّه إلى صدره ثمّ يُحوّل نفسه إلى كتلةٍ حِممٍ ملتهبةٍ تُحرق ضحاياه وتحوّلهم إلى رماد، مستغلّاً بنيته البرونزية المنيعة للنار والحرارة، ثُمّ يُطلق ضحكته الهيستيريّة حتى تمتزج مع صرخات الضّحايا في مشهدٍ مرعبٍ ومّهيب.
في هذه الأثناء، وبعد أن خاضت سفينة القراصنة الأرغونيّون “آرغو Argo” بزعامة القائد “جيسون Jason” وزوجته الحبيبة المشعوذة “ميديا Medea” خلال رحلتها التاريخية الشهيرة أوقاتاً عصيبةً في مضيق “هيليسبونت Hellespont”، استطاعت السفينة أن تجد طريقها إلى شواطئ جزيرة كريت الجنوبيّة فكان لا بُدّ للسفينة من أن ترسو فيها حتى تتزوّد بالموارد وتنال قسطاً من الراحة، فقد كان الطاقم منهكاً بعد قيامه بنهب “كلوشيز” وسرقة ردائها الذّهبي الشّهير، كما كانت تربط ميديا المشعوذة -زوجة القائد جيسون- علاقة قربى مع ملكة كريت “باسيفي” فكانت كريت وجهتهم.
وحالما اقترب جيسون والآرغونيّون من شواطئ كريت الجنوبيّة، رصدهم العملاق طالوس حالاً، وبدأ بممارسة هوايته الاعتيادية برمي السّفينة بالحجارة لإغراقها كما فعل عشرات المرات سابقاً، وعندما أصبحت السّفينة مهدّدة بالغرق أخذت المشعوذة ميديا زمام المبادرة وذهبت إلى أقصى جانب السفينة وبدأت بممارسة شعوذتها، فأقنعته بالسحر والخديعة -بعد أن وعدته بأنها ستمنحه الحياة الأبديّة والخلود- بأن يقوم بقطع الشريان الوحيد الممتدّ من عنقه حتى كاحليه، فسال الدمّ الإلهي “والذي يُسمّى الآيكور ichor ويسري في عروق الآلهة بحسب الأساطير اليونانية” وخرّ العملاق طالوس صريعاً.
لسنواتٍ طويلة نجح طالوس الروبوت في دحر جميع أعداء جزيرة كريت وغزاتها إلى أن حانت ساعته على يد المشعوذة ميديا، حيث لم تتمكّن كلُّ أنواعِ الأسلحة من حرابٍ وسهامٍ وغيرها من إلحاق الأذى به، فسقط أخيراً بالسّحر والشعوذة.
اقرأ أيضًا: ماذا يعني انتقال آبل لاستخدام معالجات ARM بالنسبة للمستخدم؟ وكيف سيغير ذلك سوق الحواسيب مستقبلاً؟
أسطورة طالوس هذه تخبّئ في طيّاتها الكثير من المعاني والرّموز عن أوّل تجسيد لفكرة الإنسان الآلي “الروبوت” في خيال الإنسان منذ آلاف السّنين، وكيفيّة رسم الإنسان لهذا الرّوبوت في مخيّلته وعلاقة تلك الصّورة بحاجات الإنسان ومخاوفه، وما يمتلك من تقنياتٍ وعلومٍ وغايته من وجود هذه التقنيات والعلوم سنحاول الوقوف عندها خلال رحلتنا مع بطلنا طالوس، الروبوت الأول في التّاريخ.
من هو طالوس الروبوت؟ وما هي طبيعته؟
طالوس هو عملاقٌ أسطوريّ مصنوع من البرونز خُلق ليكون حارساً لجزيرة كريت اليونانية، ويُمكن القول بأنه أول صورة تُرسم في خيال الإنسان للرجل الآلي “الروبوت” في القرن الـ 700 قبل الميلاد على لسان الشاعر “هيسيود Hesiod”. بطول 70 متراً، وشريانٍ وحيدٍ على شكل إنبوب يمتدّ من عنقه حتى كاحليه يَسري فيه دمُ الآلهة، يُوصف طالوس الروبوت بأنّه عملاق ميكانيكيّ محارب مهيب.
هناك عدّة روايات متناقضة حول أصل وجودِ طالوس أكثرها شهرةً وتداولاً تربط طالوس بالإله “هيفيستوس”، وهو ربط طبيعيّ كون هيفيستوس هو إله النّار والحدادين وطالوس عملاقٌ معدنيّ مصنوع من البرونز وسلاحه النّار، فمن غير هيفيستوس قادرٌ على صنعه، تقول هذه الرواية أنّ زيوس أمر هيفيستوس بإهداء طالوس إلى “مينوس Minos” ملك كريت لمساعدته على حماية الجزيرة من الغزاة.
الرواية الثانية تنفي أن يكون طالوس من خلق هيفيستوس، بل هو في الحقيقة آخر من بقي من نسلِ البشر البرونزيين، وهم الجيل الثالث من الأجيال البشريّة الخمسة وفقاً للميثولوجيا اليونانيّة، وقد قام زعيم الآلهة زيوس بتقديمه هديّةً لعشيقته “يوروبا Europa” آلهة القمر في كريت تعبيراً عن حبّه لها، يذهب البعض الآخر ليقول بأنّ طالوس لم يكن على هيئة إنسانٍ أصلاً، بل هو ثورٍ من البرونز، أو إنسانٍ برأس ثور.
وباختلافِ تلك الرّوايات يبقى طالوس أداةً أو آلةً معدنية عملاقة تمشي وتتحرك وتحارب وترى كالبشر، وتعمل من خلال نوعٍ من الوقود الإلهي يسري في شريانه الوحيد، وخلق ليقوم بوظائف ومهام محدّدة يعجز البشر عن القيام بها؛ ليكون أوّل صورةٍ متكاملةٍ للروبوت في تاريخ البشرية.
طالوس الروبوت والتقدّم التقني والصناعيّ في عصره
لطالما أظهر لنا التاريخ أنّ بعض الأساطير -كأسطورة طروادة مثلاً- تطورّت وأخذت أبعادها ونُسجت أحداثها بناءً على أحداث تاريخيّة حقيقية، تلك الأحداث كانت صعبةَ الاستيعاب بالنسبة لمن عاصرها أو عجزوا عن شرحها، لذا يلجأ البشر إلى خلق قصصٍ أسطوريّة من نسج الخيال لتجيب على تساؤلاتهم وتملأ الفراغات في استيعابهم لها، وكأسلوبٍ لتأريخِ تلك الحادثة ونقلها عبر الأجيال، ولربما كانت أسطورة طالوس مستوحاة من اختراع ما أو مشروع مجنون كان في ذلك الوقت.
لكن من المؤكّد أنّ أسطورة طالوس الروبوت لم تأتِ من فراغ بل هي انعكاس للتقدم التقني في العصر البرونزي اليوناني الممتد من العام 3200 قبل الميلاد حتى العام 1200 ق.م والقوّة العسكرية الناتجة عن الأسلحة البرونزية أيضاً، لقد كان عصر ذروة التقدم التكنولوجي البرونزي في ذلك الوقت.
اقرأ أيضًا: 10 أفكار جوهرية لا بد منها في مجال صناعة التطبيقات.. لا تطلق التطبيق الجديد قبل قراءة هذا المقال!
وكما علّمنا التاريخ لكلّ عصرٍ بداية ونهاية حيث يكادُ يتفق المؤرّخون بأنّ الأسلحة الحديديّة الجديدة التي استخدمها الغزاة القادمين من الشّمال حوالي العام 1200 ق.م وتفوّقها على تلك البرونزيّة كانت العامل الأساسيّ لسقوط اليونان وما قصّة هزيمة الأسطورة طالوس إلا رمزاً لأفُول عهد البرونز وبزوغ شمس عصر الحديد.
طالوس حالة مميزةٌ جدّاً في التاريخ حتّى بالنسبة لعصرنا هذا، فهو يمثّل تجسيداً لاندماج ما وصل إليه التقدّم التقني مع القوّة الإلهية في شخصيّة أسطورية واحدة. يقول عنه البروفيسور “ميرلين بيريس Merlin Peris”:
“طالوس سابقٌ لعصره بشكلٍ ملحوظ، فهو يمثّل استشرافاً لما أصبحنا نمتلك من آفاقٍ علميّةٍ في زمننا الحاضر، ويُمكن القول بأنّه أقرب إلى ما نراه في التّصور الشعبيّ لميثولوجيا الخيال العملي المعاصر منه إلى اللآلات الميكانيكية التي نستخدمها حقيقةً في الواقع”.
إذاً، بطلنا البرونزي يمثّل التطور التقني في علم التعدين الذي كان قائماً في عهد مينوا اليوناني، هذا التقدّم الذي وسّع آفاق خيال اليونانيين لصناعة روبوتات عملاقة لحماية أرضهم من الغزاة.
الإنسان والروبوتات تاريخياً
حاجة الإنسان للروبوتات ما هي إلّا امتداد لحاجته للأدوات والأجهزة منذ أزل التاريخ ويُمكن تقفّي أثر أُولى المحاولات البشرية لصناعة آلةٍ ميكانيكيّة ذات وظيفة فيزيائيّة محدّدة لـ 3000 عامٍ قبل الميلاد، حيث استعانت الساعات المائيّة في مصر القديمة بأجسام تماثيل بشريّة لدقّ أجراس الساعة، قام أركيتوس -مخترع البكرة والمسمار- في العام 400 قبل الميلاد بابتكار حمامةٍ خشبيّة قادرة على الطيران، كما أنّ التماثيل المتحرّكة آلياً والتي أمكنها إصدار أصواتٍ محددة والقيام بحركات وإيحاءات معيّنة وجدت العصر المصري الهيليني في القرن الثاني قبل الميلاد.
في القرن الأول بعد الميلاد قام “بيترونيوس آربايتر” بصنع لعبةٍ قادرةٍ على المشي كالإنسان وقام “جيوفاني تورياني” بصنع روبوتٍ خشبيّ قادرٍ على إحضار الخبز للإمبراطور يومياً في العام 1557، ومع حلول العام 1700 وصل علم الروبوتات إلى مرحلةٍ متقدّمة نسبياً، حيث تم اختراع العديد من الروبوتات بأسلوبٍ عبقري، لكنّه لم يكن اختراعاً عملياً بعد، ثمّ جاء القرن التاسع عشر ليحمل معه العديد من المحاولات كالدمية المتكلمة التي صنعها إيديسون والروبوت الذي يعمل على البخار على يد الكنديين.
تعتبر حاجة الإنسان لصُنع الرّوبوتات ما هي إلّا انعكاساً لمحدوديّة قدراتهِ الجسدّية، ولامحدوديّة قدراته العقلية، وصناعة الروبوتات والآلات كانت لتغطية تلك الفجوة، ولسّد حاجته المستمرّة لها في العمل والصناعة والحماية وغيرها، فلو استطاعت كريت حماية نفسها من الغزاة دوماً لما حلمت بروبوت عملاقٍ محاربٍ يحميها على مدار السّاعة.
الروبوتات في عصرنا اليوم ونظرة إلى المستقبل
نحن اليوم نعيش في عصرٍ تقوم فيه الروبوتات بتنظيف منازلنا وقيادة سياراتنا، كما يُمكنها تفكيك القنابل بدقّة عالية وتوفير الأطراف الاصطناعيّة وتشغيل المعامل والقيام بالعمليات الجراحيّة، كما تُبدع في مجالات الترفيه والتعليم والفن، وهي تفاجئنا يوماً بعد يوم بقدراتها، جاءت لنا الروبوتات بحلول فيزيائيّة وذكاءٍ اصطناعي وإدراكٍ تخطّى كلّ توقّعاتنا، هذه التقنيات جميعها سُخّرت لخدمة الإنسان وساعدته على تخطّي العديد من الصّعوبات والتحديات. فكيف ستبدو عليه حياتنا في المستقبل القريب؟
لطالما استقرأ الخيال العلمي الآفاق والمجالات التي ستفتحها لنا الروبوتات، فحيواتنا ستكون أطول بفضل الأعضاء الاصطناعية البديلة لتلك المصابة في أجسادنا، الجراحات الطبية النانويّة الدقيقة ساعدت على معالجة أمراض وإصاباتٍ وأمراضَ وراثية لم نكن قادرين عليها من قبل، والسيارات الذاتية القيادة ستملأ الشوارع وستجعل النقل والقيادة أكثر أماناً ودقّة وسرعة.
وظائفنا وأعمالنا ستتغير بشكلٍ درامي فالعديد من الوظائف والمهن الحالية ستندثر مع وجود الروبوتات الذكية، فيما ستولد مهام ووظائفَ جديدة، كتطوير برامج تشغيل الروبوتات مثلاً لتكون قادرةً على تشغيل روبوتات تعمل في منازلنا.
ستتغير الأساليب التعليمية أيضاً بوجود الروبوت بشكلٍ دارميّ، وقد تتوسّع قدرات أدمغتنا وحواسنا بتدخل صناعي روبوتيّ، وقدرتنا على استيعاب المجالات والرؤى الجديدة المكتسبة من القدرة الآلية على التحليل ومعالجة البيانات الضخمة بسرعة قياسية تتطلب مقاربةً مختلفةً للتعليم في المدارس.
لكن ماذا عن بطلنا طالوس؟ ألم تحاول الأسطورة أن تُخبرنا شيئاً؟
تقول الباحثة في الآداب الكلاسيكيّة في جامعة ستانفورد “أدريين مايور Adrienne Mayor” في دراستها عن ظهور أفكار الذكاء الاصطناعي في الأساطير والحضارات القديمة:
“لم تَحظَ أيٌّ من تلك الأساطير بنهايةٍ سعيدةٍ في كلّ مرّة يتمّ فيها إرسال تلك المخلوقات إلى الأرض، وكأنّ الأسطورة تحاول أن تقول لنا أنّ وجود تلك الروبوتات الآلية عالياً في السماء لتُستعمل على يد الآلهة أمرٌ حسن، لكن حالما تتدخل في حياة الإنسان لا نحصد إلا الفوضى والدّمار”.
الكثيرون يُصابُون بالذهول عند رؤية العنوان التالي: “ستيفين هوكينغ يحذّر من أنّ انتشار الروبوتات قد يأتي بنتائج كارثية على البشر“ ومن المؤكّد أنّ عدد المقالات والأفلام والمسلسلات والروايات التي تتحدّث عن مخاطر الروبوتات على البشريّة لا تُعدّ ولا تُحصى وهي عادةً تقوم بتصوير الروبوتات بالآلات الشريرة المسلّحة والمتمرّدة على صانعها واضعةً قتل البشر والسيطرة على العالم نُصبَ أعيُنها.
هذا الرّهاب من الروبوتات وخطرها المُحدق كأيّ شيءٍ مستجدٍّ على حياة البشر وغريب عنها مبالغٌ به ولا يستند إلى أيّ أساس علميّ أو منطقي، في حين أنّ خطرها الحقيقي هو المنافسة، فكلّما ازداد انخراط الروبوتات في الأعمال والصناعة والخدمات وغيرها من مجالات العمل، ازدادت معها نسبة البطالة، فبسبب الروبوتات أصبحت المعامل والكثير من اللأعمال والشركات بغنىً عن اليد العاملة البشريّة.
اقرأ أيضًا: 10 منصات تساعدك على إنشاء مشروعك الريادي دون كتابة سطر برمجي واحد.
كما أنّ الروبوتات قادرة على القيام بمهامٍ محدّدةٍ مصمّمة للقيام بها مسبقاً، لكنّها غير قادرةٍ على التصرّف في الظروف الغير متوقعة فهي غير قادرة على التفكير وإيجاد حلول خلّاقة ومن أخطار الروبوتات الحقيقيّة أيضاً هي أن تتحوّل إلى سلاحٍ فتّاكٍ وقاتل إذا صُمّمت وبُرمجت بهدف القتل، ومنبع الخطر هنا يأتي ممن يقوم ببرمجتها ووضع مهامها القاتلة وتوجيهها.
أخيراً الروبوتات كغيرها من الأجهزة والأدوات، يُمكن أن تكون مفيدةً في مكانٍ وضارةً في مكانٍ آخر فمهامها وسبب وجودها يحدّد خيرها من شرّها، فها هو طالوس الروبوت الأسطورة، بالرغم من نجاحه بالقيام بمهامه ثلاث مراتٍ يومياً لعشرات السنين دون كللٍ أو مللٍ، إلّا أنّه سقط ضحيّة محدوديّة ذكائه وعدم قدرته على قراءة الموقف، كما أنّه كان -كآلةٍ مبرمجةٍ على القيام بمهمّةٍ محدّدة- غير قادر على تحديد ما إذا كان الزوّار غُزاةً أم ضيوفاً أم عابري سبيل.
والأسطورة ليست حكاية عابرةً للتسلية فقط بل هي رموزٌ ومعانٍ وعِبر، وقصة طالوس الروبوت كما تعكس لنا توجّهات وحضارة عصره، لكنّها أيضاً تُوجّهنا للنظر والإمعان في أخطار وتداعيات التطور التقني والعلمي، والوعي والرّشد في استعمالها وتوظيفها وإدارتها.
وختاماً نترككم مع هذه المشاهد من فيلم “Jason and the Argonauts 1963” حيث يهاجم طالوس الروبوت المهول الغزاة ويرميهم في البحر.
أُسطورة “طالوس” الروبوت الأول في التاريخ بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات