ذكرى ميلاد ستانلي كوبريك صاحب الأوديسة السينمائية
ذكرى ميلاد ستانلي كوبريك صاحب الأوديسة السينمائية
اليوم هو ذكرى ميلاد المخرج الأمريكي الكبير “ستانلي كوبريك” “Stanley Kubrick” صاحب المشوار السينمائي الأفضل والأعرق من بين الكثير، فهو يعتبر صاحب الأسبقيات في السينما الأمريكية، فكوبريك لم يسبق أبناء جيله فقط، بل والأجيال التي جاءت بعده لصناعة السينما. ويعتبر كوبريك مرجعًا فنيًا وسينمائيًا تأثر بمنهجه العديد من المخرجين الشباب الذين لم يعاصروه، والمعاصرين له أيضًا، وهذا لأن السينما بالنسبة له كانت وسيلته الأولى والأخيرة في إبراز آرائه وغايته في تكوين فلسفة سينمائية من خلال الصور “الكادر”، ولهذا السبب كان وما زال أسلوبه السينمائي كصانع أفلام له بريقه الخاص، الذي سيظل يؤثر في كل صناع السينما مدى الحياة.
محطات حياته
“أنا دائمًا لا أعرف ما الذي أريده، ولكني أعرف جيدًا ما الذي لا أريده”.
ولد ستانلي كوبريك في مدينة نيويورك في 26 يوليو عام 1928 ونشأ في برونكس حيث عمل والده “جاك كوبريك” كطبيب وكان مهوسًا بلعب الشطرنج ونقل هذا الهوس لابنه وهو في الثانية عشر من عمره فكبر “ستانلي” على هوس الشطرنج وظل مهووسًا به طوال حياته.
كانت حياة “كوبريك” الدراسية ليست سارّة، فهو لم يكن ناجحًا في مدرسته الابتدائية والإعدادية حيث كانت أيام حضوره تعادل أيام غيابه، فهو كان يرى أنه لم يتعلم شيئًا مفيدًا في المدرسة على الإطلاق، فكل ما كان مهتمًا به آنذاك هو التصوير بعد أن اشترى له أبوه كاميرا من نوع “Graflex” عندما كان في الثالثة عشر، وبدأ اهتمامه بالتصوير يزداد شيئًا فشيئًا مع اهتمامه بالموسيقى وخاصة الجاز، حيث حاول أن يكون لاعب درامز في تلك المرحلة. وأثناء دراسته في ثانوية “ويليام هوارد تافت“ عام 1941 تم تعينه ليكون مصورًا للمدرسة لمدة قصيرة، ومن هنا بدأ اهتمامه بالتصوير يتحول من الموهبة إلى الحرفية حيث أنه في سن الـ 16 باع أول صورة له لمجلة “لوك” “Look”.
وبعد أن تخرج من الثانوية عام 1945 قرر أن يجد لنفسه طريقًا في مجال التصوير والصحافة لأنه لم يتوفق في التعيين في وظيفة ما بسبب درجاته غير العالية. وكانت أولى خطواته في مجال التصوير بعد العمل مع جريدة “لوك”، هي إنجازه لبعض من الصور الفوتوغرافية للملاكم “والتر كارتير” “Walter Cartier”، هذا بالإضافة إلى الدخل الذي كان يتلقاه من خلال لعبه للشطرنج في الساحات والحدائق.
ومن جريدة “لوك” والصور التي كان يلتقطها أثناء أمسياته العديدة في متحف الفن الحديث بالمدينة انطلق كوبريك إلى صناعة الأفلام الوثائقية بعد تشجيع وتمويل أحد الأصدقاء له، فوجد نفسه بهذه الصناعة وأخذ يفني فيها جهده وحياته من تلك اللحظة إلى أن رحل.
مشواره مع السينما
“الشاشة هي وسيلة سحرية، تمتلك قوة يمكنها أن تحتفظ باهتمامك؛ لأنها تنقل المشاعر والمزاجية التي لا يمكن لأي شكل فني آخر أن يأمل حتى بالوصول إليها”.
صنع كوبريك خلال مشواره السينمائي ما يقرب من الـ 16 فيلمًا بدأهم بفيلمه الوثائقي الأول “Day of the Fight” الذي باعه بـ 100 دولار لشركة RKO والتي موّلت فيلمه الوثائقي الثاني “Flying Padre” ثم أنجز بعده أول فيلم ملون له بعنوان “The Seafarers”. وبعد هذه الرحلة الطويلة من الأفلام الوثائقية القصيرة بدأ “كوبريك” عام 1953 رحلته مع الأفلام الروائية الطويلة التي كانت حصيلتها 13 فيلمًا فقط كان أغلبهم من تأليفه، وكان أولهم فيلم “Fear and Desire”. وانتهى مشواره السينمائي بفيلمه الأخير “Eyes Wide Shut” عام 1999 والذي توفى بعد أن سلمه بساعات معدودة، ولم يشهد ما ناله الفيلم من نجاح وما ترشح له من جوائز أشهرها كان الجولدن جلوب.
منهجه السينمائي
“يتوافق الفن مع إعادة تشكيل الحياة، لكنه لا يخلق حياة أو يسببها”.
عاش “كوبري” حياته في عزلة تامة بعيدًا عن الأنظار خاصة بعد أن انتقل إلى إنجلترا في أوائل الستينات، حيث كان يقضي معظم وقته داخل الأستوديو ولا يخرج منه أبدًا إلا للمنزل. كان يريد تكثيف تركيزه نحو مشاريعه السينمائية، ولذلك نجد أن أفلامه التي صنعها منذ تلك الحقبة وإلى آخر فيلم له تختلف كثيرًا عن بداياته، وتنم بوضوح عن مدى اعتكافه على إبراز كل ما هو جديد يستطيع تقديمه.
عُرِف عن كوبريك اهتمامه بالتفاصيل وحرصه الدائم على البقاء في جوهر القصة التي يرويها، بالإضافة إلى التروي والبطء الشديد في صُنع الفيلم، ويرجع ذلك إلى احترافه للعبة الشطرنج التي علمته أشياء كثيرة، وكان دائمًا يتخذ الدروس التي تعلمها من الشطرنج في تشبيهاته فهو يقول: “عندما تجلس لتلعب يترجف قلبك فجأة، وترتعش يدك لالتقاط القطعة وتحريكها. ولكن ما يعلمك إياه الشطرنج، هو أنك يجب أن تجلس بهدوء فيما إذا كانت فكرتك جيدة بالفعل، أما هناك أفكار أخرى أفضل”. ويلاحظ اهتمام “كوبريك” بالتفاصيل في لقطات أفلامه الذي لا تخلُ دائمًا منها، ويظهر أيضًا في اهتمامه بملامح وجوه شخصياته وعرضها من خلال اللقطات القريبة.
تميزت أفلام كوبريك بأسلوبها البصري القوي وألوانها الجذابة التي لم تشهدها السينما من قبله، فالصورة بالنسبة له كانت المنبع الأساسي في التعبير، ولذلك شهدت السينما من خلال أفلام كوبريك أساليب مختلفة في حركات الكاميرا لن نجدها إلا في أفلامه، تلك الأساليب التي تميزت بالتصاعدية والإيقاع السريع، ومثال على ذلك هو فيلمه “The Shining 1980” المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب “ستيفين كينج” في هذا الفيلم ظهرت براعة “كوبريك” في لغته السينمائية على مستوى الصورة والحوار، ويذكر أنه ليحقق مفهوم التصاعد، الذي كان ملائمًا لحالة الفيلم، عاد مشهد ما مع النجم “جاك نيكلسون” أكثر من 134 مرة. ويأتي على عرش أفلامه كمثال حي لبراعته في الصور السينمائية، وإجادته صنعها فيلمه الأسطوري الذي نال الأوسكار “2001: A Space Odyssey” والذي يعتبر تجربة حية وسابقة لعصرها في مجال الخيال العلمي وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حيث دمج “كوبريك” بين السينما والتطور التكنولوجي المعاصر لتلك الحقبة حينها ليخرج تحفته الفنية الأعرق على الإطلاق، والتي أثرت وما زالت تؤثر إلى الآن في أغلب أفلام الفضاء.
تأثره الفلسفي
“أنت مثالي وأنا أشفق عليك، كما أشفق على أحمق القرية”.
عُرف عن كوبريك تطرقه إلى المواضيع بطريقة سريالية تظهر عادية في أول الأمر، ولكن بعد النظرة الثانية لها نكتشف كم هي فلسفية وإنسانية، وتظهره كفيلسوف معاصر، وراهب متعبد لدرجة جعلته يوصف من قبل أحد النقاد بـ “نبي السينما” وذلك لأن أفلامه أيًا كان نوعها كانت دائمًا تترك درسًا أخلاقيًا ما، مثل فيلمه “The Clockwork Orange”، كما أنها تعتبر مادة بحثية في العديد من الدروس التي تحاول إيصال حكمة دينية ما، أو تطبق فلسفة عميقة.
ويرجع ذلك إلى تطلعه للوصول إلى الكمال السينمائي والارتقاء بنفسه وذلك لتأثره أيضًا بالفيلسوف الألماني الكبير “فريديك نيتشه”، وما طرحه من أسئلة حول الفن، تلك التي كان دائمًا يحاول “كوبريك” الإجابة عليها من خلال أفلامه ولذلك يرى الكثير أن أفلامه لها طابع غريب وغامض، وبعضها غير مفهوم. فـ “كوبريك” كان في أفلامه يصارع نفسه بنفسه، يطرح أسئلته الخاصة ويحاول إظهار تأثره النيتشوي الذي يجعل أي شخص يسأل بعد أن ينتهي فيلمه: “من هم أبطاله؟ ومن أين أتوا؟ وما الذي يكمن وراء وجودهم في العالم؟” وتلك التساؤلات هي ما عالجها نيتشه نفسه من خلال عدميته، أما “كوبريك” فحاول أن يعالجها بأسلوبه السينمائي الخاص، طارحًا داخلها فلسفته وآراءه تجاه الواقعية بشكل سريالي بعض الشيء.
ففي رحلة سينمائية دامت لأكثر من 50 عامًا أخذنا فيها “كوبريك” في عالمه وعرض لنا خلالها ثلاثة حروب وتمرد العبيد باسم الحرية على الأباطرة الرومان، وعرض لنا الحب والأحلام من أكثر من منظور، وجنح برؤيته ليرينا المستقبل كيف يراه؟ وقارن بين المستقبل والحاضر حيث الظلام والوحشية إلى عصر تحكمه الألة، وذهب بنا إلى منزل الأشباح ليعرفنا أنه قادر على إخافتنا في أي وقت، وقبل أن ينهي رحلته أغرقنا في حياة مليئة بالغموض حتى نحل اللغز وراء سر وجودنا في العالم؟ وبعد أن اطمأن أنه قد أدى رسالته كاملة، التقط أنفاسه الأخيرة وهو يودع العالم بجانب شجرته المفضلة في هيرتفوردشاير بإنجلترا عام 1999 بعد أن أكمل الـ 70 من عمره.
ذكرى ميلاد ستانلي كوبريك صاحب الأوديسة السينمائية بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات