الشريف.. الشعر حين يموت غريبا
الشريف.. الشعر حين يموت غريبا
في بداية العقد التسعيني من القرن الفائت تعرّفت إلى عبدالرحمن الشريف رحمه الله.
يومها أقام اتحاد طلاب اليمن أمسية شعرية لشعراء من طلاب الجامعات اليمنية قدم بعضهم من تعز ومن ذمار ومن الحديدة ومن حجة، وأذكر يومها أن الشريف قُدِّم في الأمسية ممثلا لمحافظة حجة، وأضيف في التعريف به أنه رئيس لاتحاد الطلاب هناك.
وليلتها أبلى الشريف بلاء شعريا جميلا حيث نوّع مشاركته ما بين الفصيح والعامي، وكانت عامياته ومضات طريفة من الشعر السياسي الساخر، كسر رتابة الأمسية، ومنحها بُعدا إضافيا أثبت من خلاله أن الكلمة الجميلة الملتزمة حتى وهي في ثوبها العامي قادرة على حمل رسالة الوعي والإيقاظ، بل إنها لقربها من حياة البسطاء تصبح أكثر قدرة على التعبير عما يدور في تفاصيل حياتهم بصورة أكثر بساطة وسلاسة وطرافة.
بعدها توالت تجلياته الأدبية قصائد ومقطوعات كانت تُنشر تباعا في منشورات طلابية وفي صحف ومجلات يمنية، وفي أمسيات شعرية أيضا، وأذكر في هذا الصدد أنني حضرت للشريف أمسية شعرية أخرى في المركز الثقافي في مدينة حجة، شاركه فيها عدد من الشعراء.. وكعادته كان الشريف فاكهة الأمسية.
ولعل من المحطات الأدبية البارزة في حياته الأدبية صدور مجموعته الشعرية الأولى (عصارة الأيام) عن إحدى المؤسسات الأدبية في مدينة صنعاء نهاية التسعينات، متضمنة باقة جميلة من بنات وجدانه، حضر فيها الشعر السياسي والاجتماعي والعاطفي، وقد لقيت هذه المجموعة احتفاءً واسعا في الوسط الأدبي، فقد كتب عنها الراحل المقالح، كما كتب عنها شعراء ونقاد كثرٌ، منهم الأستاذ حسن الشرفي والدكتور عبدالحميد الحسام والشاعر علي عبدالرحمن جحاف. ومن بعدها لم أعد أقرأ له جديدا في هذا المضمار، وكنت أظن أن مجموعته الشعرية تلك والتي أهداني نسخة منها ممهورة بإهداء جميل قد ختم بها الرجل رحلته في عالم الكلمة الشاعرة، حتى التقيته في صنعاء قبل سنوات، لأعرف منه أن الشعر لا يزال الرفيق الأوفى حلّا وترحالا، وأن لديه مجموعات شعرية مخطوطة موزعة بين الفصيح والعامي، وأنه إنما توقف عن النشر فقط وأن رحلته في أضواء الكلمة الشاعرة ما تزال زاخرة ولادة بكل جديد.
اليوم وصلني نبأ وفاته في القاهرة إثر مرض عضال ألمّ به رحمه الله، فحزنت مرتين: مرّة لفقد صديق عزيز، يفيض عذوبة ورقة وإنسانية، يلقاك بوجه طلق وقور القسمات، هادى الصوت، لا تفارقه الابتسامة، يشعرك وأنت تجلس إليه أنك صديقه الأجمل وحبيبه الأوفى، مبديا من نبل أخلاقه وكرم نفسه ما يجعلك صغيرا أمام هذا الشلال الإنساني الدافق.
ومرة لفقد شاعر وأديب كبير عاش هم أمته من مفتتح القصيدة حتى خاتمة البوح، وكان من حقه كموهوب وكحامل رسالة أن ينال حقه من التقدير والاحتفاء والتكريم، وبدلا من أن يعيش معزّزا مكرّما بين الناس الذين أحبهم ونذر حياته وقلمه لخدمة قضاياهم.. بدلا من ذلك؛ يموت هناك بعيدا عليلا غريبا.. لكنها ميتة العظماء الذين تستقبلهم السماء طيورا بيضا لخفق أجنحتها مدى الدهر صدى في جنان الله وفي قلوب محبيهم الأوفياء.
المصدر :الصحوة نت
ليست هناك تعليقات