رواية جنتلمان في موسكو: أن ترى العالم بعيون الآخر
رواية جنتلمان في موسكو: أن ترى العالم بعيون الآخر
هل يمكن لكاتب أمريكي أن يكتب رواية تدور أحداثها في روسيا في بداية القرن العشرين؟ إن لم تعلم سبب تميُّز هذا التاريخ، فدعني أوضِّح لك بعض الأحداث.
بعد دخول الإمبراطورية الروسية إلى الحرب العالمية الأولى، نفدت موارد الدولة المهترئة بالفعل في الحرب. أدى تدهور الدولة بعد الحرب إلى حنق وغضب شعبي واسع، وأثار هذا الغضب الثورة الروسية في 1917، التي أدت في نهاية المطاف إلى استيلاء البلاشفة الشيوعيين بقيادة فلاديمير لينين على الحكم، واضطهاد أبناء الأرستقراطية الروسية التي حكمت قبل ذلك.
تبدأ رواية جنتمان في موسكو للكاتب الأمريكي أمور تاولز بمشهد محاكمة أحد نبلاء تلك الأرستقراطية الروسية، الكونت ألكسندر إيليتش روستوف، أمام محكمة من البلاشفة، متهمينه بكتابة قصيدة تحض على الحراك. يرد الكونت هذا الاتهام قائلًا «كل الشعر دعوة للحراك». وبدلًا من الحكم على الكونت بالإعدام، أو بالنفي إلى أكثر مناطق العالم صقيعًا في سيبيريا، حُكم عليه بقضاء ما تبقى من عمره في الفندق الذي كان مقيمًا فيه بالفعل، المسمى فندق المتروبول. وكانت تلك العقوبة كما وصف الكونت في متن الرواية، أقسى من النفي خارج البلاد، لأن النفي داخل بلادك يعني أن المنفي لن يستطيع بدء حياة جديدة.
لم تكن بداية الرواية مجرَّد محاكمة للكونت ألكسندر روستوف، بل كانت محاكمة لنظام بأكمله. لقد ادعى البلاشفة أنهم جاؤوا لتحرير العمال والشعب الروسي المقهور من ذل الأرستقراطية والركود الاجتماعي الذي حكمت عليهم الملكية به، وفي خضم ذلك، ادعى زعيم ثورة اكتوبر الروسية فلاديمير لينين أن الخلاص من أذناب النظام البائد لا يكون إلا بالعنف، فتوجه لينين إلى القصاص من كل المنتمين إليه من النبلاء والأرستقراطيين.
ولكن الكاتب أمور تاولز يضع في الرواية ما يمكن أن نطلق عليه «التاريخ الموازي» لتاريخ لينين الرسمي. من منا سيسمع بثورة شعبية تحاكم مجموعة من الملوك والأمراء الذين سيطروا على مقدرات الشعب الروسي لقرون من الزمان دون أن يتعاطف مع الثورة ويُبث في قلبه غضب عارم من هؤلاء الملوك الكسالى، الذين لا يفعلون شيئًا سوى الأحاديث الفارغة ومشاهدة سباق الخيول ومبارزات الفرسان. يرفض تاولز تلك النظرة في الرواية، مطالبًا إيانا بقراءة الرواية لنرى العالم بعيون الكونت.
قصة إنسانية في بضعة أمتار
بعد مشهد المحاكمة، يُرحَّل الكونت إلى فندق المتروبول، الذي يقع على بُعد أمتار من الكرملين في موسكو. يُخبر الضباط البلاشفة الكونت أن عليه أخذ مقتنياته سريعًا من جناحه المعهود، لأن هذا الجناح لم يعد مخصصًا له، وسينتقل مع مقتنياته الضرورية فقط إلى غرفة أخرى أصغر حجمًا من ذلك الجناح، ويترك ما تبقى من متعلقاته لأنها أصبحت «ملكية عامة للدولة والشعب». وبالفعل يأخذ الكونت المقتنيات الضرورية، وبعض الكتب، وينتقل منصاعًا للأوامر.
يتعامل تاولز في الرواية مع السرد الروائي بخفة، فتقرأ معه بشعور أنك قريب من الكونت في حركاته وإيماءاته، فترى العالم الذي يعيش فيه الكونت بعيونه، وتشعر بما يشعر به، وتخوض في بحار أفكاره دون أن يبوح بها. عندما تقرأ الرواية لن تبذل جهدًا حتى تتمثل لك حركات الكونت وتعبيرات وجهه كأنك تعيش معه في المتروبول.
ولكن هذا الأسلوب لا يجعلك تتماهى كليًا مع الكونت، فقد حافظ تاولز على مسافة معقولة بين الراوي وبين الكونت، وقد ظهر ذلك جليًا في الحواشي التي كتبها تاولز بصفته قريب من الكونت، لكنه ليس ملاصقًا له، ليتمكن القارئ من إقامة التمايز بينه وبين الشخصيات الأخرى داخل الفندق، فيخلق هذا التمايز نوعًا من فهم لشعور الكونت دون التسرُّع في الحكم عليه بالإيجاب أو السلب.
لكل إنسان فرصة ثانية
يتناول تاولز حياة الكونت في المتروبول، على مدار 590 صفحة من الطول، دون تطور يُذكر في الأحداث. تدور أحداث الرواية- كلها تقريبًا- في فندق المتروبول، خلال مواقف تدور بين الكونت وبين شخصيات الفندق، فتارة يدخل الكونت في حوار مع النادل، وتارة مع صديقته الطفلة نينا، التي أنجبت بعد بلوغها لاحقًا صوفيا، وأصبحت صوفيا صديقة للكونت أيضًا. وعبر سرد تلك المواقف ووضع الجُمل على لسان الشخصيات في الحوار، يتمكن القارئ من الاقتراب من الكونت، دون التسرُّع في الحكم عليه.
«في نهاية المطاف، ما الذي يمكن للانطباعات الأولى أن تخبرنا عن شخص قابلناه للتو من دقيقة واحدة في فندق؟ ما الذي يمكن أن تخبرنا مقطوعة ألَّفها بيتهوفن عن بيتهوفن؟ إن البشر معقدون ومتناقضون بطبيعتهم، إنهم لا يستحقون تدبُّرًا فقط، بل يحتاجون إعادة التدبُّر مرة ثانية، ألا نحكم عليهم قبل أن ننغمس مع كل تفصيلة ممكنة، وكل ساعة ممكنة في حياتهم»
لقد جاء البناء الروائي لجنتلمان في موسكو معبِّرًا عن غاية الكاتب كما ذكرها في خضم سرده، أن يعيش القارئ مع كل ساعة وكل مشهد حياة، أن يدخل مملكة الكونت التي تحولت من أراضٍ واسعة، إلى غرفة محدودة الأمتار في فندق موسكوفي. ولكن الرواية لا تحكي مواقف متفرقة فحسب، ولكنها تتناول بين الفينة والأخرى تاريخ الكونت، لتكتشف أن الكونت لم يكن عضوًا اعتياديًا يتمتع بالامتيازات التي تمتعت بها الأرستقراطية الروسية. فقد كان يعيش الكونت حياته متجولًا في أنحاء أوروبا، في بريطانيا وفرنسا، ويجيد التحدَّث بلغتيهما.
وفي مشهد يتناول فيه تاولز حوارًا بين الكونت وبين الكولونيل السوفيتي المنوط به مراقبة الكونت في الفندق، يرغب الضابط من الكونت أن يعلِّمه الإنجليزية والفرنسية، في تهكُّم واضح من الكاتب على الضابط وعلى التفكير السوفيتي، بل وعلى قائد الاتحاد السوفيتي ستالين الذي ينعته تاولز في الرواية بـ«سوسو». يخاف السوفييت ممثلين في ضابطهم من رجل مسالم يحترم غيره كالكونت، ويعيِّنون ضابطًا خاصًا لمراقبته، ولكنهم لم يولوا كثيرًا من الاهتمام لتعلُّم لغات أخرى كالإنجليزية التي تعلَّمها الكونت، حتى أن الضابط يرغب بشغل فراغهما بأن يعلِّمه الكونت تلك اللغة التي لا يعرفها.
في الحوار بينهما يقول الكولونيل أوسيب إيفانوفيتش:
«وأنت تعتبر البلاشفة من بني جلدتك؟»
فيجيب الكونت: «بالطبع»
«فهل تعتبر البلشفي جنتلمان؟»
«هذه قضية أخرى تمامًا، ولكن بعضهم كذلك بكل تأكيد!»
لقد أوضح تاولز في روايته كم أن النظام البلشفي حاكم الكونت على جريمة لم يرتكبها، لقد حاكمه لأنه ولد في عائلة أرستقراطية، يحاكمه على لقبه، لا يحب البلاشفة لقب الكونت أو الجنتلمان الذي يرغب ألكسندر روستوف أن يُنادى به، بل يرغبون في مناداة الجميع بـ«الرفيق». يحاكم النظام رجلًا لا يمثل خطرًا البتة على النظام ولا يحمل سلاحًا، بل عاش أغلب حياته خارج روسيا وعاد إليها بعد الثورة بمحض إرادته لكي يطمئن على أخته الكونتيسة. إنهم لا يحاكمونه بدوافع سياسية، بل بدوافع انتقامية، دوافع تتناقض مع أعمق مشاعر الإنسان، أن يتعاطف مع أخيه الإنسان.
الصراع بين الحداثة والقيم
نشر البلاشفة في أرجاء روسيا بروباغندا أنهم خلّصوها من التخلُّف الذي عمّها خلال فترة الحكم القيصري. فمن على السطح، يظهر أن روسيا كانت بلدًا متخلفًا تكنولوجيًا، يعتمد على الزراعة بالطرائق التقليدية. في مشهد مؤثر، ينزل الكونت إلى مخزن فندق المتروبول للنبيذ، فيرى أن البلاشفة قرروا إزالة العلامات التجارية من عليها؛ لأنها رمز للدعاية وخداع الشعب. كانت تلك الواقعة محبطة للكونت الذي يعتبر نفسه خبيرًا بالنبيذ، وعلامة على نزع هوية الأشياء.
وفي مشهد آخر، سمع الكونت شخصًا ألمانيًا نزيلًا في فندق المتروبول يتحدَّث مع صديقه البريطاني عن إسهامات روسيا. يقول الألماني بتهكُّم أن الفودكا كل ما قدمته روسيا إلى أوروبا في عصور التخلُّف. لكن الكونت يسمع الحديث ويختلف معه، ذاكرًا له أمثلة عن عظماء الثقافة الروسية، مثل تولستوي وتشيخوف في الأدب، اللذين سطرا دفة الرواية الطويلة على يد تولستوي وكان تشيخوف الأمهر في القصة القصيرة، وتشايكوفسكي في الموسيقى. يمكننا ملاحظة كيف تختلف رؤى شخصين من عصرين مختلفين، فالكونت يرى أهمية الفن الرفيع، باعتباره قيمة من قيم الإنسانية التي أُهدرت مع التقدم الصناعي والتكنولوجيا. أما محاوره فيرى التقدُّم في الإنتاج المادي، رابطًا روسيا بالفودكا فقط.
رواقية الكونت والتمسُّك بالحياة
«الأمر بسيط، كان والد الكونت يؤمن كثيرًا بأن الرجل ينبغي أن ينشغل كثيرًا بالحياة، لكن لا ينبغي أن ينشغل كثيرًا بالساعة. ولما كان تلميذًا لكل من الرواقيين ومونتاني، فقد آمن بأن خالقنا قد خصص ساعات الصباح للكد والعمل. بمعنى، إذا استيقظ المرء قبل السادسة، وتناول وجبة خفيفة، ثم انكب على عمله، فبحلول الظهيرة، سيكون قد أنجز عمل يوم كامل»
نشأت الفلسفة الرواقية في العصر الهيلنستي على يد الفيلسوف زينون الرواقي. تدعو الرواقية إلى مجموعة من التعاليم، تهدف إلى حالة الإيودايمونيا، وتعني حياة يحقق المرء فيها ذاته ويصل إلى حالة من التناغم مع نفسه والعالم. ترى الفلسفة الرواقية أن إنجاز تلك المهمة يتعلَّق بما يدور داخل المرء لا خارجه؛ إذ ترى أن الأشياء والوقائع ليست جيدة بذاتها أو سيئة بذاتها، ولكن حكم الإنسان عليها يصبغها بتلك الصفات، وعلى هذا الأساس فإن السعادة تتحقق عبر عدم اللهاث إلى اللذة وعدم الفرار من الألم، بل تقبُّل الحياة كما هي، بتغيير ما يمكن تغييره، والتسليم بما لا يمكن تغييره.
يبدأ تاولز روايته بسرد اختيار الكونت لكتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل دو مونتاني، ثم يشير لاحقًا في الرواية إلى الفلسفة الرواقية. وبتأمل حياة الكونت في فندق المتروبول، لن يكون عسيرًا على المرء أن يلاحظ أن الرواقية كانت فلسفة الكونت في حياته. لقد استعان الكونت بالفلسفة الرواقية ليرى إمكانات جديدة في حياته، ليستمتع بوجباته اليومية العادية والحديث مع الأصدقاء، ويحيا حياة في رغد، ربما حياة أثرى بكثير من حياة الذين عاشوا بحرية خارج أسوار الفندق. لقد انطوت حياة الكونت على درس لخصّه تاولز في عبارتين: «إن لم يقهر المرء ظروفه، فحتمًا ستقهره ظروفه»، «وأن يتخيل المرء حياة أخرى غير حياته، فهذا هو الطريق الحتمي للجنون».
تمثِّل رواية جنتلمان في موسكو تجربة حية عن معايشة الآخر بعيونه، وتكشف الأساليب الروائية التي استعملها أمور تاولز في الرواية عن وظيفة مهمة من وظائف الأدب؛ أن نتمكن من خلاله بالحياة خارج أجسادنا. في جنتلمان في موسكو نعيش خارج أجسادنا بصحبة الكونت ألكسندر إيليتش روستوف، لنعلم عن حياته وتفاصيله، ونكتشف أنه ليس الشيطان الذي صوَّره البلاشفة، فنتعاطف معه ونرى العالم من منظوره، ونتعلم منه صفات نبيلة، مثل ثراء الحياة والعطف على الآخرين.
رواية جنتلمان في موسكو: أن ترى العالم بعيون الآخر بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات