الصعلكة والفتوة: ظواهر لمعت واختفت في الثقافة العربية
الصعلكة والفتوة: ظواهر لمعت واختفت في الثقافة العربية
يُعد كتاب “الصعلكة والفتوة في الإسلام” للدكتور أحمد أمين هو كتاب يبحث في أصل كلمة “فتوة” في الثقافة العربية، وكيف تم تناولها في العصور المختلفة بداية من الجاهلية وصولًا للعصر الحديث، وبسبب تداول كلمتي الفتوة والصعلكة إلى الآن وعدم اندثارهما قرر أن يتتبع الأمر تاريخيًا وثقافيًا، فقد اختلفت الاستخدامات وتطورت وتحورت، حتى القرآن استخدم كلمة فتى وفتية، والصوفيون كان لهم رؤيتهم أيضًا، والمماليك كذلك.
نرشح لك قراءة: الفتوة في الرواية العربية: مفهوم صاغه نجيب محفوظ وصقله الواقع المتناقض!
كتاب الصعلكة والفتوة في الإسلام
وفي هذا المقال سنقدم عرض ومراجعة سريعة لأفكار كتاب “الصعلكة والفتوة في الإسلام،، ونشرح كيف قام الدكتور أحمد أمين بالتتبع التاريخي لكلمة فتوة وصعلكة، وكيف تطور هذا المفهوم عبر العصور المختلفة.
جاءت فكرة كتاب “الصعلكة والفتوة في الإسلام” في ذهن الكاتب “أحمد أمين” عندما قرأ كلمة “الفتوة” في سياق ترجمة حنين بن إسحاق في كتاب الأغاني، فأثناء العمل على الكتاب وجد الكاتب قرابة بين مفهومي الصعلكة والفتوة؛ لذلك قرنهما في كتاب واحد، وقد وجد أيضًا مفهوم الفتوة خارج البلاد العربية، كتب عنه ابن بطوطة في رحلاته إلى البلاد التركية، فثار فضول الباحث بداخله وقرر يقوم بمهمته البحثية والتي خرجت في أكثر من طبعة منها طبعة مكتبة الأسرة في 2017.
فيقول أمين:
“فرأيته أثناء رحلته في البلاد التركية يشيد بذكر الفتوة فيها ويبين إكرامهم للضيوف ومعاملتهم بعضهم البعض”.
والمؤلف له كتب تتميز بغزارة المعلومات وتنوع الموضوعات والرؤية المغايرة، منها “فجر الإسلام” و”ضحى الإسلام” و”النقد الأدبي”، فهو كان مدرسًا بكلية الآداب بالجامعة المصرية، كما أنه كان قاضيًا شرعيًا، وعمل مديرًا للإدارة الثقافية بوزارة المعارف، فكتبه كلها تعتبر مراجع موثوقة، كما أنه يتميز بلغة سهلة رشيقة لا تشعر معها بالملل.
الفتوة في الجاهلية
وبالعودة إلى كتابنا “الصعلكة والفتوة في الإسلام”، بدأ الكاتب باستعراض كلمة فتوة بالعصر الجاهلي ومر بصدر الإسلام والعباسي والمملوكي والعصر الحديث. فالفتوة في الأصل معناها الشباب، قالوا فتى يفتي، أي صار شابًا، وجمع الفتى على فتيان وفتو وفتية، والاسم من ذلك كله الفتوة، كما أن معاني الفتوة كانت كلها تدور حول الكرم، والسخاء والقوة.
وتعددت صفات الفتى حسب تعدد البيئات، فكل قبيلة تختلف صفات الفتى فيها عن القبيلة الأخرى، وتعددت بين “الكرم والنجدة، وقد تكون العقل والفصاحة، وقد تكون كتمان السر”.
وضرب مثلًا بزهير بن أبي سلمى الذي يرى أن الفتى هو فصيح اللسان حكيم العقل، وطرفة بن العبد كان يرى نفسه مثلًا أعلى للفتى، فهو ينجد قومه في الحروب، كريم، جاد في حياته عند الجد، يلهو لهوًا شديدًا عند انتهاء الجد لكن عند انتهاء الجد.
الصعلكة في الجاهلية
رأى “أحمد أمين” الصعلكة في الجاهلية هي المقابل للفتوة، فالفتيان هم أبناء الطبقة الثرية، مثل طرفة وامرئ القيس، يقابلهم أبناء الفقراء الصعاليك مثل عروة بن الورد وتأبط شرًا والشنفرى، وهم شعراء كبار، وأسسوا نوعًا خاصًا بهم هو شعر الصعاليك.
فهو يسرقون وينهبون لكنهم كانوا نبلاء، يسرقون الأغنياء البخلاء، ويبتعدون عن الأغنياء الكرماء، فهم لصوص شرفاء، فهم النسخة العربية من روبن هود.
ومن شهرة عروة روي أن معاوية بن أبي سفيان تمنى أن يصاهره، وعبد الملك بن مروان تمنى أن يلده.. فهو عروة الصعاليك، كما أنهم المؤسسون الأوائل للشيوعية.
“حتى ليكون أن رئيسهم عروة بن الورد أغار يومًا، ونال خيرًا وسبى رجاله امرأة، فأراد عروة أن يختص بها، ويخصموا منه ثمنها، فأبوا عليه ذلك تطبيقًا للاشتراكية المطلقة، وقالوا نقومها بإبل فتكون سهمًا فمن شاء أخذه ومن شاء تركه”.
ويقول عروة في بيت يصور نظرته لأمور الصعلكة:
أقسم جسمي في جسوم كثيرة … وأحسو قراح الماء والماء بارد
فهو يقسِّم غذاءه الذي يكون جسمه على أجسام كثيرة.
أنواع الشباب والصعاليك
ففي الجاهلية كان هناك نوعان من الشباب، الشاب الفتى والشاب الصعلوك، الفتى هم (أبناء الذوات) حياتهم فيها خمر وغناء ونساء، لكنهم كرام ينفقون على الفقراء ويكرمون الضيوف، ويقابلها الفقراء (الصعاليك) حياتهم غزو وسلب ونهب وتوزيع عادل..
فيقول أمين:
“وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفًا وتفضلًا، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجبًا”.
وقد فرق حاتم الطائي بين نوعين من الصعاليك، نوع يسعى على رزقه بالنهب، ونوع آخر كسول ينتظر الصدقة فقال:
لحى الله صعلوكًا مناه وهمه … من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعما
شعر الصعاليك
اختلف شعر عروة عن شعر الشنفرى في الموضوعات وفي تناول حياة الصعلكة، فالأول كان يصور المعنى الإنساني أما الثاني فيصور معاني الشجاعة والسلب والنهب وقال في ذلك:
خرجنا من الوادي الذي بين مشعل … وبين الجبا هيهات أنشأت سربتي
أمشي على أين الغزاة وبعدها … يقربني منها رواحي وغدوتي
ويصف نفسه قائلًا:
قليل غرار النوم أكبر همه … دم الثار أو يلقى كميا مسفعا
وعدَّد الكاتب الكثير من شعراء الصعاليك وأتى بنماذج من شعرهم وخصص فقرات للامية العرب لتأبط شرًا وهي القصيدة التي ترجمها الشاعر جوتة..
ومطلعها يقول:
إن بالشعب الذي دون سلع … لقتيلا دمه ما يطل
نرشح لك قراءة: إغاثة الأمة بكشف الغمة: كتاب المقريزي عن تاريخ مصر مع المجاعات والأوبئة
انتهاء الصعلكة
الصعلكة بهتت بعد ظهور الإسلام مباشرة لأسباب منها نهي الإسلام عن السلب والنهب، ومنها إخراج الزكاة للفقراء، والفتوحات الإسلامية التي أدرت الدخل الكثير على المسلمين.
ولم يستطع أحمد أمين أن يسمي الشطار بالصعاليك، لأن الصعاليك كان لهم غاية إنسانية لكن الشطار لا يملكون هذه الغاية ولا يسعون إليها، ولم يتبق من الصعاليك غير سيرتهم وأشعارهم.
الفتوة الإسلامية
انتقل الكاتب إلى العصر الإسلامي، وضرب أمثلة بالفتوة وهو (حلف الفضول) وهو حلف عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة، وجاءت في القرآن الكريم:(قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم)، و(إنهم فتية آمنوا بربهم)، ولأن الإسلام حرم العبودية فتغيرت كلمة عبد فلان، إلى فتى وفتاة، فقال تعالى:((وإذ قال موسى لفتاه)).
الصوفيون والفتوة
الصوفيون استحسنوها واستخدموا كلمة “الفتوة”، وأصبحت جزءًا من ثقافتهم، فكتب القشيري بابًا باسمها وعرفها بقوله: “أصل الفتوة أن يكون العبد ساعيًا أبدًا في أمر غيره” وعن الفضيل قال: “الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان”.
وقال بعضهم: “الفتوة ألا ترى لنفسك فضلًا على غيرك”، و”أن تُنصِف ولا تُنصَف”.
وكانت الفتوة بمكان حتى أن ابن عربي عقد فصلًا طويلًا عنها في الفتوحات المكية عنوانه: “معرفة مقام الفتوة وأسراره” وقال فيه مقدمته:
إن الفتوة ما ينفك صاحبها … مقدمًا عن رب الناس والناس
إن الفتى من له الإيثار تحلية … فحيث كان فمحمول على الراس
الفتوة في العصر العباسي
وبالتقدم في صفحات “الصعلكة والفتوة والإسلام” إلى العصر العباسي، نجد تعدد أنواع الفتوة وتشعبها بين فتوة مدنية وانقسمت الفتوة المدنية إلى فتوة عسكرية وفتوة كرمية، وفتوة صوفية، وتوسعت الفتوة في هذا العصر حتى أن الخليفة الناصر لدين الله أنشأ لها نظامًا خاصًا أشبه بنظام الفروسية، والتدريب على فنون الرياضة البدنية المختلفة.
وكان هناك احتفال بالانضمام إلى سلك الفتيان كان مصحوبًا بشرب كأس الفتوة، وادعو أن للفتوة سندًا يتصل إلى علي بن أبي طالب”، وأفتى الفقهاء بتحريم هذه الطقوس وتحريم الفتوة..
انحدار عصر الفتوات
ثم انتقل أحمد أمين إلى عصره حيث الفتوات التي عرفناها في الأفلام وروايات نجيب محفوظ، فكل حي له فتوة، وهو في الأصل والعرف شاب شهم نبيل شجاع ذو مروءة.
وهم يسكرون والمخدرات خصوصًا الحشيش، وإذا لعب بهم السكر أفسدوا ما شاؤوا، وكان يتقابل فتوات الأحياء فوق الجبل ليتصارعوا، وقد يموت بعضهم أثناء هذه الصراعات التي كان السلاح فيها هو النبوت.
لكن الحكومة قضت على هذه الظاهرة بعد دخول الإنجليز مصر، وكان يطلق عليهم بلطجية، وفي الإسكندرية “أبو أحمد”، وفي سوريا “قبضايا”.
ويأسف المؤلف على لقب الفتوة، بعد أن كان يحمل معنى جميلًا به من القوة والمروءة فأصبح الاعتداء والظلم هو سيد الموقف..
بلورة الصعلكة والفتوة
يرى الكاتب أن الاشتراكية هي “فكرة صعلكة متبلورة”، ويرى أن الفتوة توزعت في الدول الحديثة بين هيئات تقوم بأعمالها من نجدة للضعيف وضرائب تفرض على الأغنياء ليستفيد الفقراء منها وهيئات أخرى تشغِّل العاطلين.
واخيرًا.. فـ”الصعلكة والفتوة في الإسلام” يعتبر رحلة لطيفة قصيرة تعرف من خلالها كيف يبدأ المفهوم وكيف يتغير بتغير العصور، ولو بحثت في أي معنى ستجد أمورًا مذهلة وقصصًا في غاية الطرافة تعرف من خلالها كيف تؤثر الظروف الدينية والاجتماعية والسياسية على تغيير المفاهيم وذهابها إلى النقيض.
الصعلكة والفتوة: ظواهر لمعت واختفت في الثقافة العربية بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات