التفكير يجب أن ينبع من ذاتك في عالم الجميع فيه ينساق خلف الجميع
التفكير يجب أن ينبع من ذاتك في عالم الجميع فيه ينساق خلف الجميع
أخبار كثيرة لا حصر لها، تُذاع يوميًا، لا نعرف أيها صادق وأيها كاذب. الغريب أنّ أغلب الناس ينساقون وراء ما يسمعون، لا يدعون مجالًا لإعمال عقولهم. غير ذلك، عادات أجدادنا، نشأنا عليها، حتى أصبحت تقاليد ملازمة لنا ولمن بعدنا، لم يفكر الكثير منا في التمرد على بعض من هذه التقاليد التي لا تناسب عصرنا الحالي؛ بالرغم من أنّ مخالفة هذه التقاليد لا يُقلل من معتقداتنا الدينية والأخلاقية. الكثير لم يمارس ما يُعرف بآلية التفكير النقدي، الذي يُعين الإنسان على مقاومة اتباع عقلية القطيع، لكن الآن حان الوقت للاستقلال بفكرنا الخاص.
اسأل عن كل شيء
هذه هي النصيحة الشائعة، التي يقدمها الأساتذة والخبراء للخريجين، قبل الخوض في سوق العمل، ومواجهة الحياة، أو العالم الحقيقي، وذلك لتحفيزهم للوصول إلى آفاق جديدة، لم يصل إليها من سبقوهم، مما يفتح لهم الباب لجعل العالم مكانًا أفضل. لقد تعلم هؤلاء الخريجون مهارات التفكير النقدي والتحليلي بشكلٍ جيدٍ، لذا من المنتظر أن يُضيفوا للعالم شيئًا جديدًا، غير مسبوق.
ينطلق هؤلاء الشباب في رحلتهم بحماسٍ، ويدخلون في عالمٍ مليء بكميات هائلة من المعلومات، مما يضطرهم إلى توجيه دفة أمورهم إلى ما يسمى بالتخصص، فيُصوبون تركيزهم تجاه أمر محدد، وبالتالي يتجاهلون الأمور الأخرى، وتتضاءل الرحلة الاستكشافية التي خرجوا إليها، لمحاولة مواكبة وضع المجتمع وقد يضيق فكرهم، ويتخذون مقاعدهم في صفوف المجتمع الجالس وينتظر من يحرك زمام أموره.
الأمر يبدأ منذ الطفولة
هل لاحظت من قبل أنَّ البشر بشكلٍ عامٍ، يميلون لرأي الأغلبية، حتى وإن كانوا غير متأكدين منه؟ على المستوى الشخصي، فقد لاحظت ذلك من فترة طويلة. لقد أثار هذا الأمر فضولي، مما دفعني للبحث ومعرفة السبب وراء ذلك. هل هو أمر غريزي؟ أم سلوك مكتسب لبني البشر؟ متى يبدأ؟ كيف؟ كلها أسئلة تدور في أذهان الكثيرين، منهم أنا.
أفادت إحدى الدراسات المختصة بآليات التفكير مجملًا، بأنَّ الأمر يبدأ في وقت مبكر عند الأطفال، حتى أنه يبدأ في سن ما قبل المدرسة!
أثناء الدراسة، شاهد أطفالًا، تتراوح أعمارهم ما بين ثلاثة إلى أربعة أعوام، مجموعة من الأشخاص، عددهم ثلاثة أو أربعة. قام هؤلاء الأشخاص بإطلاق نفس الاسم على شيء جديد، لكن أحدهم أطلق اسمًا مختلفًا، ثم طُلب من الأطفال اخبارهم باسم هذا الشيء، فأطلق الأطفال الاسم الذي اقترحه أغلبية الأشخاص، ولم ينقَد أحد منهم إلى الاسم الذي أطلقه الشخص الوحيد. وكانت النتيجة هي أنَّ رأي الأغلبية يحكم الأطفال في سن دون المدرسة.
المثير للاهتمام حقًا، ما حدث في تجربة تالية، عندما خرج أعضاء المجموعة من الغرفة، وتبقى في الغرفة العضو المعارض، وعضو من مجموعة الأغلبية، والأطفال. ثم أتوا بشيء جديد، أطلق عليه عضو مجموعة الأغلبية اسمًا، ثم أطلق عليه العضو المعارض اسمًا آخرًا، وعندما سألوا الأطفال عن اسم هذا الشيء، أعطوا للشيء الاسم الذي أعطاه الشخص المنتمي للأغلبية.
هذه النتائج تؤكد قدرة الأطفال في سن الثالثة والرابعة على التعرف على الرأي الجماعي والثقة فيه، كما أنهم قادرون على تذكر من كان، ومن لم يكن عضوًا في مجموعة الأغلبية. ناهيك عن أنَّ الأطفال بشكلٍ عامٍ لا يتفقون دائمًا مع الأشخاص، إلا أنَّ هذا قد ساعد في معرفة الاستراتيجية، التي تساعد الأطفال على التفاعل وبدء التفكير بشكلٍ عام.
إنها عقلية القطيع!
في عام 1973، نشر عالم الأحياء هاملتون، مقالًا بعنوان (هندسة القطيع الأناني). وهو يفيد بأنَّ الأفراد يسعون للحفاظ على أنفسهم من الخطر بالانضمام إلى مجموعة ما، وتبني أفكارها، وهذا ما يحدث بطبيعة الحال في المجتمع البشري، فالإنسان اجتماعي بطبعه.
لكن هذا يحد من قدرتنا على التفكير بأنفسنا!
لا شك في أنَّ سلوك عقلية القطيع، يمنع الإنسان من الاستقلال بالتفكير، وبمرور الوقت، يفقد الثقة في تفكيره الخاص، بل ويقلل منه، وينتهي الأمر في نهاية المطاف، بتسليم زمام تفكيره للمجتمع المحيط به، والانسياق بشكلٍ أعمى لآراء الغير، وهذا لا يفيد في كثير من الأحيان. بل إنَّ هذا أداة خطيرة، وفرصة ذهبية للمستغلين، فيقومون ببرمجة عقول الناس كما يريدون، فقد اعتادوا عليهم منصتين، وموافقين لا معارضين.
نجد أيضًا أنَّ هذا الإنصات الأعمى، يجعل البشر في حالة من الجهل حول الكثير من الأمور الحياتية، فكم من فكرة شائعة أودت بحياة البشر لجهلهم بها. وأبرز هذه الأفكار تنتشر في الساحة الطبية، فهناك مثال يقول: “أسأل مجرب ولا تسأل طبيب”. إنه مثال شعبي منتشر في المجتمع المصري خاصةً، وبالرغم من بساطة المثل، إلا أنه يحمل في طياته الكثير مواطن الخطر. فبسبب هذه الأمثال، التي لا ترتكز على أساس علمي صحيح، نجد في تاريخ الأعلام عميد الأدب العربي الذي فقد بصره! وأخوه الذي توفي بسبب عدم تفكير الأسرة في إحضار الطبيب!
كورونا وتحديد التفكير
في نهاية عام 2019، بدأ فيروس كورونا المستجد بالانتشار عبر العالم، حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية، بأنَّ كورونا أصبح وباءً، فانتفض العالم أجمع لهذه الفاجعة الخطيرة، وبدأت وسائل الإعلام بتغطية أحدث الأخبار الخاصة بالوباء. لكن هل علينا الاستماع لكل ما يُقال؟ الإجابة، نعم. هل علينا تصديق كل ما يُقال؟ الإجابة، لا.
إذن ماذا نفعل؟ في الحقيقة الأمر يحتاج النظر للأمر من جميع النواحي، وإعمال العقل بالطبع، فلا يصح أن نعتمد بشكلٍ كلي على وسائل الإعلام أو ما يروجه الناس بالخارج، دون دليل علمي ملموس. لا شك في أنَّ بقاء الناس في المنزل هو أفضل سبيل للوقاية من الوباء، لكن على الصعيد الآخر سيتسبب هذا في انهيار اقتصاد البلاد. ناهيك عن أنَّ قوة الاقتصاد مرتبطة بصحة البشر. فبدون البشر، لا يوجد اقتصاد.
ما الحل إذًا؟
إنَّ التفكير وآلياته أمر معقد حقًا، لذا من الضروري أن يفكر البشر بالإيجابيات والسلبيات وموازنة الأمور بشكلٍ جيدٍ، والنظر للأمر من جميع الجوانب بدقة وعدم إهمال التفاصيل البسيطة، والبحث عن حلول تضمن سلامة الأفراد قبل اتخاذ أي خطوة. ومن الضروري أن يفكر الجميع، ولا ينساقون لعقلية القطيع التي يفرضها عليهم شخص واحد في الغالب، ويوافقه الأغلب، ومن ثمَّ البقية. عندما يمارس كل شخص تفكيره المستقل، ستظهر العديد من الأفكار المختلفة، أي أنَّ، دائرة الحلول ستتسع. وهذا أكبر تحدٍ يمكن لأبناء مجتمعنا فعله عند اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، وعرض وجهات نظر مختلفة.
قم بهذا التمرين. اتخذ قرارًا في أمرٍ ما، واطلب من صديق لك أن يخبرك بكل الأسباب التي تجعل قرارك خاطئًا، ماذا سيحدث؟ ستجد أنَّ هذا سيجعلك تنظر للأمور من منظور مختلف، مما يفتح أفقك للتفكير في عدة جوانب. ستزداد دائرة رؤيتك للأمر، وستتخد القرار الأقرب للصواب.
هناك تمرين آخر. تخيل نفسك الآن على فراش الموت، وأنَّ حياتك كانت فاشلة بكل المقاييس، ثم فكر في هذه الأسباب التي تسببت في فشلك؛ هذا سيجعلك تقيّم تصرفاتك في الحياة بشكلٍ منطقي. بالتالي تستطيع تجنب الأسباب والتصرفات التي قد تتسبب في وصولك لحالة الفشل. الغرض من هذه التمارين هو توسيع دائرة الرؤية والاهتمام بمفهوم التفكير في الأشياء حولنا بشكلٍ نقدي.
على أرض الواقع، وفي ظل الأخبار الكثيرة التي يتداولها الإعلام بين الناس، وللأسف الشديد، ينقاد أغلبية الناس لهذه الأخبار دون تفكير أو تحقق – عقلية القطيع – ينصح الخبراء باستخدام المجلات الورقية بدلًا من الأخبار التي يقرأها عبر الإنترنت، فغالبًا ما تكون الأخبار المُتدَاولة عبر الإنترنت مدفوعة، وتهدف للاحتفاظ باهتمام القارئ، أما الصحف الورقية، فهي للإبلاغ أكثر، كما يُنصح بالقراءة من أكثر المصادر الموثوقة والتأكد من المعلومة بشكلٍ دقيق قبل تقبّلها. وإعمال العقل والتفكير بشكلٍ نقدي.
أما في حالة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تجد في كثير من الأحيان أنَّ المذيع يعرض خبرًا أو معلومةً، ويناقشها بنفسه – لاحظ أنه شخص غير متخصص – والإعلام مؤثر، ينقاد وراءه الكثير من الناس دون تفكير. في هذه الحالة أوقف الناس تفكيرهم وانساقوا وراء رأي المذيع. بالرغم من أنّ الأمر أشبه بطلب رأي ميكانيكي سيارات في إعطاء وصفة لطبخة ما، إلا أنَّ الناس لا يلتفتون لهذا، ويظنون أنّ رأي المذيع ومناقشته صحيحة بنسبة 100 %.
يُنصح أيضًا بإعمال التفكير الذاتي زعدم الانسياق الأعمى وراء أي منشورات قد تحمل نسبة ما من عدم المصداقية في مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المنشورات تعطي للإنسان إحساسًا بأنه مسيطر على الوضع، والحقيقة أنَّ هذا الإحساس محض وهم يا صديقي. قد تفكر الآن في أنّ كلامي خاطئ، حتى أنك تحدد من تتابع بنفسك على وسائل التواصل ولا أحد يجبرك. لكن مهلًا يا صديقي، أود تذكيرك بأنّ كل هذا ما هو إلا خوارزميات يخضع إليها العالم الرقمي، وقد يظهر أمامك منشور لا تتابع صاحبه، وإنما لمجرد اهتمامك بالمنشورات المماثلة من حسابك، فتتابع حساب هذا الشخص لأنك مهتم بما يُنشر.
هل التخصص يحدد تفكيرنا؟
سُئل أحد الخبراء عن نصيحته للشباب بخصوص التخصص، فكان رده: “ليس كل من يتجول ضائعًا”، ونصح الشباب الذين في بداية حياتهم بالبحث عن الوظائف التي تتطلب تفكيرًا واسعًا. لكن إذا كان هناك فرصة جيدة تتطلب التخصص، فلا بأس من ذلك، وليكن تجربة لتطوير التخصص.
بشكلٍ عامٍ التخصص أسهل، لكنه قد يحد الفكر إذا لم يتم تطويره، في نفس الوقت لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع، فجميع التعميمات خاطئة، بما في ذلك التعميم. ويجب أن يدرك الأفراد أنَّ لوجهات نظرهم أهمية، ولا ينبغي إهمالها. من الضروري رؤية وجهات نظر الآخرين أيضًا؛ لربما تُلفت نظرنا لأمر ما لم نتداركه بعد.
التفكير يجب أن ينبع من ذاتك في عالم الجميع فيه ينساق خلف الجميع بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات